هل أويت يوماً إلى النوم واستشعرت السلامة التي انتهى بها يومك، ودفئ الفراش الذي يحتويك والإحساس بالأمن الذي تتوقعه في غدك؟ ثم هل استيقظت من النوم وأدركت كم هو عظيم أن سقف غرفتك مازال يظلك وأنك نهضت مرتاحاً معافى؟ كثيرٌ منا يستشعر ذلك ولكننا قليلاً ما نتأمل دلالة هذه النعم وتفاصيلها الكامنة!!
هل جلست يوماً على شاطئ البحر ترمي بنظرك نحو الأفق وتستنشق هواء البحر متأملاً صوت تدفق أمواجه. كثير منا يستمتع بجمال البحر وبنعمة الإحساس بالجمال، ولكن قليلاً ما نتأمل في سلامة «مركبات» حواسنا وقدرتها على توصيل الرسائل الجميلة من البحر والطبيعة لنا... قليلاً ما نتذكر ونحن نحمد الله على هذه السعادة والجمال أن هدايتنا إلى الوقوف أمام البحر هو إرشاد إلهي خفي كي نستنشق مادة اليود من البحر التي تفيد أجسامنا وتفيد الغدة الدرقية بشكل خاص. قليلاً ما نتذكر أن جمال البحر كان «وسيلة» إلهية كي نخلص أعيننا من ضيق المدينة وقصر النظر في نظامنا اليومي إلى فتح الآفاق أمام شبكيات أعيننا وقرنياتها كي ترتاح وتسترخي وكي تزداد فاعليتها وكفاءتها.
لذلك كان وصفه تعالى لنعمه التي «أسبغها» علينا أي تممها بأنها نعم ظاهرة وباطنة، في قوله تعالى (أَلمْ ترَوْا أَنَّ اللهَ سخرَ لكمْ ما فِي السماوَاتِ وَما في الأرْضِ وَأَسبغَ عليكمْ نعمهُ ظاهرَةً وَباطنةً وَمنَ الناسِ منْ يجادِلُ في اللهِ بغيرِ علمٍ وَلا هدى ولا كتابٍ منيرٍ) لقمان الآية 20. فكل هذا الكون مليء بالنعم الباطنة التي لا نراها وأحياناً لا نستشعر تفاصيلها. فهو مسخر للإنسان ومذلل لخدمته. فالأرض لا تعاندنا أو تتذمر حين نمشي عليها أو نكسر صخورها لنبني فوقها منازلنا، أو نحفر في جوفها لنستخرج المياه والمعادن أو ندفن موتانا. والبحر لا يبخل علينا بخيراته وكنوزه، والغابات لا تمنع عنا زرعها وحيوانها. ولم تقايضنا الشمس يوماً أو القمر على الضياء والنور ولم تطالبنا «بفاتورة». كل ذلك جعله الله لنا «استحقاقاً» كونياً نسير به مصالحنا دون أن نتوقف عند لطائف هذه الأمور. وقليلاً ما نقول «الحمد لله الذي سخر لنا هذا».
نحن في الغالب نتذكر النعم الظاهرة، ونحمد الله عليها، ونخشى زوالها حين نرى المحرومين منها، أو حين يلوح في الظروف تهديد لدوامها. لكننا لم نتعلم بعد استحضار النعم الباطنة وكيف نشكر الله عليها. وقد تكون تلك المهارة إحدى طرق المتصوفة التي بها اهتدوا إلى نظرية الحلول ووحدة الوجود حيث وجدوا في كل الموجودات نعمة وعظمة تدل على وجود الله وعظمته.
وكي لا نمضي بعيداً مع المتصوفة، فإننا كما أمرنا بحمد الله وهي، كما قال الفقهاء، عبادة اللسان باللهج بالثناء على الله وذكر نعمه، فإننا كذلك أُمرنا بالشكر وهي عبادة الجوارح تعبر فيها عن امتنانها بنعم الله بالعمل الصالح. ومن عبادة الشكر استثمار تلك النعم في مرضاة الله. ففي صحيح البخاري: يشير النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه إلى أن المغبون «الخاسر والخائب» من لم يستثمر نعمتي الصحة والفراغ «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منْ الناسِ الصحّةُ وَالفرَاغُ»، فالصحة والفراغ من النعم الظاهرة والباطنة معاً التي لا يدرك الإنسان أهميتها تمام الإدراك. والتي علينا تسخيرها في مرضاة الله وألا نعطلها ونجمدها دون منفعة.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك و»الحمدُ للهِ الذِي لهُ ما في السماوَاتِ وَما في الأَرْضِ وَلهُ الحمدُ في الآخرَةِ وَهوَ الحكيمُ الخبيرُ» سبأ الآية1.