تخيل نفسك أمام طفل يستنجد بك لنزع السكينة المغروسة في قصبته الهوائية ودماؤه تنزف وهو ينازع الموت وأنت مشغول بتحديد الملام، أمه أم أبوه؟ هكذا امتلأ الفضاء الإلكتروني قيئاً وقيحاً إما بالهجوم على حماس أو بالدفاع عنها ومتى؟ أثناء القصف وتساقط القتلى، فالاثنان تساويا في العبثية، والدخان يتصاعد والموت يخطف الأعداد واحداً تلو الآخر وفضاؤنا الإلكتروني امتلأ بأنصار الفريقين «الإخوان وخصومهم» يتصيد كل منهما على الآخر، بلا خجل وبلا ذرة حياء.
اختزلنا فلسطين، بل اختزلنا شعبها في «الإخوان» وحماسها، واخترنا وقت طلوع الروح لنصفي حساباتنا التخوينية، فهذا متصهينٌ شامت بموتى غزة، وذاك فخور متاجر بجثثهم، أهذا وقته. أهذا مكانه؟ هل انعدمت الإنسانية فينا إلى هذه الدرجة؟ هل طغى الحس العبثي فما عاد بيننا من ينظر إلى تلك الوجوه التي علاها الرماد ليعرف اسمها؟ حكايتها؟ من بقي للحي منها؟ من سيرعى أيتامهم؟ من سيواسي أمهاتهم؟ من سيرحم شيبهم؟ من سيجيب على أسئلة أطفالهم «وين أبي وين أمي»؟ من سيحضن اليتيم منهم؟ ألا تشغلنا تلك الأسئلة البديهية الآن على الأقل؟ أليست تلك قاعدة بسيطة هشة تجمعنا الآن -على الأقل- اسمها الإنسانية؟ هل فقدت؟ هل محيت؟ أصبح كل همنا -الآن- تحديداً في هذا الوقت أحماس هي السبب أم هي النتيجة؟ وصواريخ القسام حقيقة أم «فشنك»؟
وبعد الانتهاء من الجدل «الحماسي الإخواني» عرجنا على خلافنا العربي، فهذا يسب قطر وذاك يشتم مصر ودول الخليج، وهذا يقول تذكرون خطاب مرسي، وذاك يقارنه بخطاب السيسي، وهذا يمجد حماس والإخوان ويصعدها للسماء وذاك يخسف بها الأرض وصور الدخان تتصاعد وصور الأطفال المقطوعة رؤوسهم تتوالى ونحن مازلنا فيما يشغلنا نسب ونشتم في بعضنا، وقبل أن ننام لا ننسى الدعاء على أوباما ولعن «سنسفيل» أهله... يا أخي يلعن «سنسفيلنا» نحن الذين فقدنا كل شيء حتى إنسانيتنا.
تلومون الحكام والأنظمة لأنها لن تسخر سلطاتها وما تملكه من أدوات لرحمة هؤلاء البشر وإنقاذهم؟ تلومون الحكام والأنظمة على فرقتهم وعدم وحدتهم؟ انظروا لسلطاتكم، أين سخرتموها؟ انظروا لفضائكم بما ملأتموه؟ ها هي أداة كان بإمكانها فعل الكثير في هذه اللحظة وفي هذه الإيام بالذات، أين سخرتموها أنتم؟ إنكم أسوأ من حكامكم ألف مرة.
عذراً طفلا عثر عليك بين الرماد حياً، لا تهمني هويتك ولا يهمني دينك ولا تهمني فتحاوية أو حماسية أبيك، أعرف فقط أنك تبحث الآن عن حضن أمك فلا تجده، وتبحث عن يد أختك الصغيرة التي كنت ممسكها قبل لحظات فلم تجدها، وتزوغ عيناك تتفحص الوجوه الغريبة التي حولك فلا تعرف أحدها، تمد يدك لعل أحداً من هؤلاء الذين يتزاحمون ويتراكضون في رواق في مكان لا تعرف أين هو ولا من هؤلاء لعل أحدهم يضمك الآن ويقول لك لا تخف إن الله معنا، لا تخف نحن معك، لا بأس لست وحدك، يمسح الغبار عن عينيك، عذراً حبيبي الصغير.. فنحن لم نعد بشراً.