خلال الأسابيع الماضية شاهد العالم جانباً جديداً ومتكرراً من التعامل الأمريكي الاحترافي مع المتظاهرين السلميين بعد قتل الشرطة لشاب أسود يعتقد أن دوافعها عنصرية بحتة، وبعد أن تمت تبرئة المجرم من قبل القضاء الأمريكي النزيه في أقسى صور انتهاك حقوق الإنسان.في هذا التعامل استخدمت الإدارة الأمريكية قوات الشرطة المسلحين، واستخدمت القنابل، والرصاص الحي، وفرضت إجراءات حظر التجول، وألقت القبض على المئات بما فيهم مجموعة من الصحافيين الذين تعرضوا للاعتداء من قوات الأمن والاعتقال أثناء قيامهم بمهامهم الإعلامية.هذه المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام الأمريكية والدولية دفعت إلى إعادة تغيير أنماط التفكير في مجتمعات عديدة، فبعد أن كان قمع مظاهرة خرجت عن مسارها السلمي «استخداماً مفرطاً للقوة» بالمفهوم الأمريكي، صار الآن حقاً من حقوق الدولة في مواجهة التجاوزات الكثيرة التي تتم باسم حقوق الإنسان والحقوق المدنية والحريات العامة.لندن لم تكن بعيدة عن المساهمة في تغيير المشهد، حيث اتخذت إجراءات قاسية لمواجهة «الإرهاب المحتمل» وليس الإرهاب الحقيقي لأنه لم يقع حتى الآن. واتخذت إجراءات تسمح للسلطات الرسمية بإسقاط الجنسية عن المواطنين البريطانيين بمجرد الاشتباه في تورطهم بالإرهاب، وهو بالطبع «اشتباه» قابل للتفسير والتأويل حسب الأمزجة والأهواء، ولكن الأهم هنا هو كيفية تعامل الحكومة البريطانية مع أعمال الإرهاب والجماعات المتطرفة والأفراد الذين انخرطوا فيها.إجراءات أخرى مماثلة اتخذت في عدة دول أوروبية أبرزها فرنسا وهولندا بعد تزايد مخاطر التطرف هناك، ومن أهم هذه الإجراءات إسقاط الجنسية عمن يتورط في أنشطة إرهابية أو متطرفة.هذا المشهد بتفاصيله المتسارعة، يدفعنا إلى التفكير بالمعايير والقيم التي نتبعها أحياناً ونلزم بها أنفسنا باسم حقوق الإنسان والحقوق المدنية والحريات العامة. ومقابل ذلك نرى من التجاوزات أن هيبة الدولة تتراجع، ويتم تقويض سيادة القانون، فالحد الفاصل بين الحريات والقانون يصبح صعباً في أحايين كثيرة، وهنا يثار تساؤل حول كيفية تغليب المصلحة في هذه الحالة؟ وما هي المعادلة الأنسب لحفظ أمن الدولة واستقرار المجتمع والحفاظ على حريات الأفراد وحقوقهم المدنية؟هل يتم تغليب مصلحة الأفراد في ممارسة حقوقهم وحرياتهم وبالمقابل من الممكن ضياع مصالح الدولة وأمنها واستقرارها؟ أم يكون الخيار الثاني بتغليب مصلحة الدولة والمجتمع لحماية أمنه واستقراره وهو ما قد يكون على حساب حقوق الأفراد وحرياتهم؟طبعاً المعادلة صعبة، ولكن الخيار الثاني قد يكون الأقل ضرراً لأن هذه المعادلة هي التي يمكن أن تحافظ على الحد الأدنى من حريات الأفراد وحقوقهم مقابل حفظ أمن واستقرار المجتمع وضمان سيرورته.بالتطبيق على المشاهد التي تمت في الدول الأوروبية كإجراءات في مواجهة التطرف يمكن استنتاج أنها كانت طبقاً للمعادلة الثانية، فهذه المجتمعات العريقة بحرياتها وديمقراطيتها لجأت إلى إجراءات صارمة ومتشددة تجاه المواطنين من أجل الحفاظ على حقوقهم وحفظ أمن واستقرار المجتمع.ولم تختلف الولايات المتحدة في ذلك، فكان تبريرها للاستخدام المفرط للقوة هو حماية أمن واستقرار المجتمع وإن انتهكت حريات وحقوق الأفراد.مطلع أغسطس الماضي تم رفع النسخة النهائية لتقرير خاص (من 600 صفحة) يتناول استخدام وكالة الاستخبارات الأمريكية لوسائل التعذيب إلى الكونغرس، وبحسب رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ ديان فينشتاين فإن التقرير يتناول نتائج تحقيقات في برنامج الاعتقال والاستجواب الذي استخدمته الإدارة الأمريكية لسنوات طويلة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأثبت التقرير حسبما أعلن أنه يتضمن إدانة استخدام التعذيب من قبل السلطات الأمنية تحت مبررات تتعلق بـ «الأمن القومي»، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما قال: «فعلنا أشياء تتعارض مع قيمنا».وحتى الآن مازال هناك خلاف كبير بين الكونغرس والإدارة الأمريكية بشأن طريقة عرض التقرير ونتائجه، ففي الوقت الذي يدفع فيه البرلمانيون إلى الالتزام بالشفافية وعرض النتائج بحرية أمام الرأي العام، تتحفظ إدارة أوباما على ذلك.ورغم أن أعمال التعذيب والتجاوزات التي تمت ويوثقها التقرير حدثت خلال الإدارة الاستخباراتية الأمريكية السابقة، إلا أن الإدارة الحالية للوكالة برئاسة جون برينان قامت بجهود كبيرة لمنع الكشف عن المعلومات حول التصرفات التي قامت بها الوكالة خلال الفترة الماضية، واتخذت ثلاثة إجراءات تم الاعتراف بها حتى الآن:ـ التلاعب في نتائج التحقيقات الخاصة أثناء إعداد التقرير.ـ قيام موظفي (السي آي إيه) باختراق أجهزة الكمبيوتر الخاصة بلجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ وأزالوا بعض الوثائق فيها.ـ الضغط على المسؤولين عن إعداد التقرير لعدم استخدام كلمة (تعذيب) في أعمال الأجهزة الأمنية.أعضاء الكونغرس يرون أن استخدام وكالة المخابرات المركزية للتعذيب له «عواقب سياسية ودبلوماسية وقانونية وحتى جنائية خطيرة». لذلك مازال الخلاف قائماً بين الإدارة الأمريكية والكونغرس لنشر التقرير، وآخر فصول هذا الخلاف هو تأجيل الإعلان الرسمي عن تفاصيل التقرير لأسابيع أخرى حتى تنتهي لجنة الاستخبارات بالكونغرس من التفاوض مع الإدارة الأمريكية حول المحتوى الذي يمكن نشره في التقرير. علماً بأن الموعد الأول لنشر التقرير كان في أغسطس الماضي، وتأجل إلى سبتمبر الجاري، ومن المتوقع أن يكون الموعد الجديد نوفمبر المقبل.هذا ما فعلته إدارة أوباما لحماية المجتمع الأمريكي والأمن القومي للولايات المتحدة، تجاوزت الأنظمة والقوانين، وضربت بالشفافية عرض الحائط، وانتهكت حقوق الإنسان، وانتهكت حقوق النواب الأمريكيين بعلمهم من أجل مصلحة المجتمع وهيبة الدولة.دروس كبيرة يجب أن تتعلمها دول العالم في ما يتعلق العلاقة بين الحريات والحقوق من جهة والأمن الوطني واستقرار المجتمع من جهة أخرى. والبحرين أيضاً يجب أن تستفيد فلا أمن واستقرار وهيبة للدولة أمام حقوق وحريات ومبادئ ليست مطلقة.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90