أصبحت العملية التربوية في ظل الفضاء المفتوح من أصعب المهمات، إن لم تكن من العمليات المستحيلة، فحجم الفضاء المفتوح على الإنسان اليوم يؤكد لنا صعوبة أو استحالة سير العملية التربوية وفق إرادتنا وثقافتنا وقناعاتنا، ولهذا فمن يحاول أن يقول غير ذلك فهو يعيش خارج هذا الزمن.
الملتزم دينياً على سبيل المثال يحاول بأقصى جهد ممكن أن يكون أبناؤه من المتدينين، ولكن لا يعلم وفي ظل معطيات الفضاءات المفتوحة بلا سقف أو حدود، أنه من الممكن جداً أن يكون الأبناء لا علاقة لهم بالتدين ورغباته، وأنهم لم ولن يكونوا من المتدينين، بل ربما يكونون على عكس رغبات المربي، سواء كان أباً أم أماً.
البعض يريد أن يكون ابنه مهندساً أو طبيباً أو رجلاً وجيهاً في المجتمع، لكن وبفعل أدوات التربية القادمة من خارج نوافذ المنزل أو من داخل جهاز الكمبيوتر الشخصي للطفل أو عبر الهاتف الذكي أو من خلال فضاءات الإنترنت التي لا حصر لها، يصدم الأب أو الأم أن صغيرهما يريد أن يكون لاعب كرة قدم أو انتحارياً.
أولياء أمور يقومون بعمل جدولة منظمة للتربية السوية، وبعضهم يدققون في سلوك صغيرهم ويتابعونه أثناء الخروج والدخول، ومع ذلك وبسبب الفضاء المفتوح، كما أسلفنا، يجدون صغيرهم وبطريقة سحرية وغير منطقية بأنه أصبح إرهابياً أو داعشياً دموياً دفعة واحدة!
كل هذه الحكايات والقصص المتعلقة بتربية الطفل وتلقينه وتلقيمه قيمنا وعاداتنا التي نعتقد بصحتها وسلامتها، تؤكد لنا أن العملية التربوية التقليدية أصبحت في خبر كان، وأن كل المخططات التي يبنيها المربي أو الأسرة تذهب أدراج الرياح، لأنه يجب عليهم أن يستوعبوا أن منازلهم وغرف نومهم لم تعد بذات الخصوصية والسرية التي كانت في عهد قريش، لأنها بالفعل باتت بلا سقف، وكل ثقافة مغايرة لقناعاتهم وثقافاتهم يمكن أن تنهمر عليهم كسيل جارف من سماء وفضاءات الإنترنت والعالم المفتوح من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، حتى من دون أن يحركوا ساكناً أو أن يمنعوا ما يصل صغارهم عبر «السقف المخلوع».
كم من طفل بات منحرفاً سلوكياً وشاذاً عن كل القيم والأخلاق، وكم من شابة تتعاطى المخدرات فجأة واحدة، وكم من شاب أصبح إرهابياً بين غمضة عين وعين، بينما تعتقد أسر هؤلاء الصغار، أنهم فعلوا المستحيل من أجل تربية أطفالهم وفق المنهاج الإسلامي المعتدل، أو حسب القيم التربوية الصحيحة!
كل هذه المعطيات والحسابات تشي أن الواقع أكبر من المثل، وأن المربي الخارجي أكثر فعالية ووحشية من المربي الداخلي الناعم، لأن موجة الانفتاح أشرس وأقوى من كل أغطية الانغلاق، وهذا ما لم يحاول استيعابه كل المربين الأفاضل في عالمنا المعاصر.
الانتصار على سلبيات الواقع المنفتح بلا حدود ليس ببناء الأسقف التي لا يمكن بناؤها أصلاً، بل بالاندماج مع الأبناء بطريقة صحيحة، وليس بعزلهم أو الانعزال عنهم، وكذلك بصناعة ثقافة رصينة ومرنة عبر امتلاك أدواتها المعاصرة، ولن يكون ذلك إلا أن نكون فاعلين ومنتجين لأدوات المعرفة العالمية، والدخول في سباق محموم مع الدول المتطورة التي تصنع ثقافات الدنيا كلها، وإلا سنظل نراوح مكاننا، أو نكون كمن يريد أن يملأ بالماء برميلاً مليئاً بالثقوب، وهذا الذي نعنيه بقولنا إننا في زمن نكون فيه أو لا نكون.