هل شهر رمضان ووصل إلى منتصفه، والفترة الزمنية بين بدايته وما وصل إليه عداً كأنها لمحة بصر وطوي الزمن بهذه السرعة هناك من يقول عنها كأنها من علامات الساعة والله أعلم بها وحده لكن إحساس الإنسان بمرور الزمن سريعاً هكذا يعتبر شيء ملفت للنظر، ما أن يبدأ الأحد إلا وترى الخميس وراءه لكن المحصلة النهائية تكمن في أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. إذا ما أخذنا رمضان من هذا المنطلق وجب ملئ الوقت فيه، لكن بماذا؟ هذا هو بيت القصيد، يقال إن رمضان هو شهر العبادة وهذا يعني أن هناك تركيز عليها من صيام وصلوات وقراءة للقرآن أي زيادة في رصيد المسلم من الأجر والثواب أولاً بشكر الله عز وجل على ما منحه عبده من نعم وثانياً لمنفعة العبد نفسه في الآخرة، وعليه فإن من مزايا الشهر الفضيل هو تذكير المسلم بأن هناك آخرة غفل عنها في الأشهر الأخرى بمشاغله الدنيوية على الرغم من علمه بالآخرة التي هي في النهاية دار القرار، فكيف ينشغل الإنسان وبمنطقه هو بدار العبور عن دار القرار. إذاً فشهر رمضان يعطي المسلم فرصة دورية تذكيرية للتحضير للآخرة بصفة رئيسية ناهيك عن مزاياه الدنيوية.
في الوقت الذي يصعب فيه التعميم على كل المسلمين فإن هناك البعض منهم ليس له هذا الرمضان الآخر الذي أن يكون بمعنى الشهر المكرس للعبادة الصالحة والمركزة مقرونة مع حسن المعاملة مع الناس. هذا النوع من المسلمين اختطوا لأنفسهم رمضان مربوطاً بالمصالح الدنيوبة وصلت إلى حد استغلال الشهر الفضيل لأغراض هي أبعد ما تكون عما وجد رمضان لأجله وقد انعكس هذا التوجه الخاطئ على معاملتهم مع الناس التي أتت هي الأخرى بالضرورة سلبية وضارة، وبالتالي بدل استغلال رمضان لمنفعة المسلم الأخروية تم استعماله لمقاصد دنيوية وهو بالضبط الاتجاه المعاكس.
بعد ترك متعهدي الرمضان الآخر يتعبدون بهدوء وخشوع بينهم وبين ربهم متبعين تعاليمه ومنصتين لوعظ وإرشاد علماء دينهم، يجب التطرق إلى طرق وأساليب عباده من سخروا رمضان لدنياهم والبدء بممارستهم لتلك العبادة. لو تابعنا أحدهم متوجهاً بسيارته إلى المسجد لرأيته يوقف سيارته في موقف يعيق غيره أو في الشارع كل هذا بحجة توجهه للمسجد وعلى الرغم من جميع التنبيهات بغلق بالهواتف النقالة إلا أن هذا لا يعنيه ولو حدث وجاءته مكالمة أثناء الصلاة لطار تركيزه في لحظة وأزعج الناس بصوت هاتفه، وبمجرد أن يسلم الإمام تراه يترك المسجد، وإن لم يكن هذا حاله تراه هو وأمثاله يحولون مكان العبادة إلى مقهى للحديث المرتفع الصوت حال انتهاء الصلاة ناسياً أو متناسياً أن هناك من يريد أن يتسنن أو يقرأ القرآن خصوصاً في رمضان، وعندما ينبه بواسطة الغير إلى وجوب الخشوع والهدوء تراه يستنكر ذلك التنبيه، ويا ليت مواضيع الحديث كانت موعظية لكنها في الغالب دنيوية. من هذه الفئة من المصلين هناك من يصلي بصورة آلية ميكانيكية تخلو من التركيز والتبصر والتأني فيما يقول فترى المصلي يركع ويسجد كانه روبوت متحرك. ومن هؤلاء من يستوقفه أحد وينهاه عن الغيبة والنميمة في حديثه أو بوجوب تبني صوم الجوارح من نظر وسمع ونطق لسان، وإذا كان لا ينتمي إلى فئة الناس «اللي كاشفين راسهم موليه» تراه يبدأ الحديث على استحياء قائلاً «والله الواحد صايم ولا وده يقول..» ثم يسترسل «حاشاً» الأولي والتالي. يخرج هذا من المسجد ويذهب لقضاء حاجاته التي منها التبضع لمزيد من المأكولات مع أنه ملأ البيت مسبقاً قل رمضان متلهياً إلى قبل دقائق من مدفع الإفطار ليركب سيارته ويسوقها بسرعة جنونية خطرة حتى يكون في موعد الإفطار لا لأخذ تمرة وشرب قطرة ماء وإنما لملء البطن من الطعام والشراب لدرجة تصعب معها الحركة مع أن المفروض هو الاقتصاد في الأكل والشرب حتى يحس الصائم بأن هناك من لا يملك عشر ما يملكه صاحبنا من الطعام والشراب. قد يقول «لا تدوشوني بالجوع وغيره هناك أهل الخير وإفطار صائم إلخ» لكن ما هو شعورك كصائم، هذا الشعور يجب أن تحسه أنت وإلا هل تريد أن تستأجر أيضاً فقيراً ليحس بذلك ثم أنك بتخمتك تشتري المرض، ألم يقل سيد المرسلين صوموا تصحوا ثم ألم يقل إن المعدة بيت الداء والحمية هي الدواء. بعدها يذهب صاحبنا كعادته السنوية إلى المسجد ليصلي العشاء والتراويح، عشر ركعات إذا كانت عشرين ركعة وأربع إذا كانت ثمان حتى منتصف رمضان ثم يودع المسجد بقوله إلى اللقاء «السنة الياية».
في عالم اليوم الذي تلعب فيه وسائل الاتصالات الحديثة دوراً مهماً يجري بطبيعة الحال إعلامنا بقرب حلول شهر رمضان بفترة لا بأس بها وهذا الشيء جيد إذا كان بصفة عامة ينفع الناس والعكس صحيح إذا فيه ضرر لهم فالدعوة إلى تكديس الأكل والشرب قبل رمضان مع ما يصاحبه من إرهاق لميزانية العائلة غير مستحب كأننا مقبلون على حالة حرب مع إن البضائع متوفرة قبل وخلال وبعد رمضان بنفس الكميات تقريباً، ومن قال إعلام في هذا الصدد تتجه أنظاره إلى التلفزيون وبالتحديد إلى المسلسلات لا إلى برامج الوعظ والإرشاد الأخذة في التناقص عاماً بعد عام فاسحة المجال بالنتيجة لمزيد من المسلسلات ويا ليت كانت الخيرة تتمحور حول فكرة يستفيد منها المشاهد وإنما تحوم حول موبقات كالسكر والعربدة والغش والخداع لتنتهي نهاية إيجابية في آخر حلقة مع صرف طوال أيام الشهر الفضيل في تصوير الشر هذا لفظاً أما مشاهدة فترى العنصر النسائي الشاب في التمثيل «يتزوغ» بشكل مبتذل مع تجسيد أدوار الإغراء بتفنن كل هذا في شهر الصوم والعبادة بحجة الترويح عن النفس بعد الإفطار. ثم هناك المسلسلات الخليجية التي تعج بالدراما والمآسي من بكاء مفرط ومشوه وضرب ونكد عيش لدرجة أن الدموع تكاد تفيض من الشاشة إلى بساط حجرة التلفزيون وغير واضح أين الترفيه من كل هذا. التجارة والتجار لها ولهم الباع الطويل في رمضان، فمنذ اللحظة الأولى التي يسمع فيها عبر التلفزيون مدفع الإفطار تتوجه الشركات بالتمنيات لإفطار هنيء للمشاهدين ويلاحظ أن القائمة طويلة بحيث إن المذيع لا ينطق هذا التمني بخشوع يرقى إلى مستوى الشهر الفضيل وإنما يقول بطريقة ميكانيكية أقرب ما تكون من غرضها التجاري، ثم هناك العروض الترويجية بمناسبة رمضان والتي لا تخلو من الشروط والطرق الملتوية في تحقيق أغراضها. أما أن يكون ترويجاً بريئاً فلا بأس لكن المشكلة أن المصاريف الضرورية في رمضان تتبعها مصاريف العيد ترهق ميزانيات العائلات المحتاجة بحيث لا يتبقى شيء منها لمصاريف الكماليات إذا ما فائدة الترويج على الأخيرة.
ظاهرة أخرى من الرمضان «المعتاد» هو تكدس الأحياء بالخيم الرمضانية ويا ليت التسمية تنطبق عليها فبدل أن يجري تداول الأحاديث الدينية والتبصر في الدين داخلها تصرف الساعات وليس السويعات في الحديث العادي أولاً ثم في لعب الورق والدومينة والكيرم من بعد التراويح حتى أذان الفجر وربما بعد ذلك وهذا ليس من رمضان في شيء بل هو دخيل عليه ولك أن تتصور مدى خمول الموظف بعد هذا السهر الطويل الأمد حين يتوجه إلى عمله في اليوم التالي، لذلك تسمع في دواوين الوزارات والمصالح الأخرى كلاماً مفاده الطلب من المراجعين إعطاء الموظفين وقتاً أطول لإنهاء معاملاتهم بسبب رمضان وصيامه وكأننا في هذا نتهم الشهر الفضيل بأنه مسؤول ضمناً عن تعطيل مصالح الناس، والظاهر أن بعضهم قد وجد حلاً دنيوياً جذرياً لهذه المعضلة فما أن يقترب حلول الشهر الكريم حتى يأخذ إجازته السنوية التي تستمر طوال فترته لا ليكرسه للعبادة ولكن لمضيعة الوقت في الذي يجري داخل الخيمة الرمضانية من سهر ولعب. ويشتق من ظاهر الخيام الرمضانية هذه ما هو أبعد من ذلك ويتمثل في الخيام الفندقية التي توجد بداخلها مسارح تعج بالمغنيين بألحان راقصة في صالح الزبائن الذين يحيطون بالطاولات العامرة بمختلف أنواع المأكولات والشيشة. جو لا يمت إلى رمضان بصلة ومع ذلك فهناك إصرار دعائي أن هذه الظاهرة الشاذة هي للاحتفاء بالشهر الفضيل، وفي هذا تناقض واضح، إذ يصوم العبد نهاراً ثم يذهب ليلاً ليأكل حتى التخمة ويسمع أغاني مجونية ويدخن الشيشة الضارة. تدخل تلك الخيام وإذا بك ترى سحب من دخان الشيشة تعلو الطاولات في الوقت الذي ترى وتسمع فيه حملات التوعية من مضار التدخين حتى على الذي لا يدخن لكن يجلس مع مدخنين، هذا بالنسبة للسجائر فما بالك بالشيشة ومن السخرية أن تسمع أن معسل البحرين مرغوب في مصر وبالتالي صرنا نتاجر بصحة الآخرين.
يتزايد الإقبال على أداء العمرة في رمضان تيمناً بحديث خاتم الأنبياء والرسل بأنه من اعتمر في رمضان فكأنما حج معه صلى الله عليه وسلم وهنا يتجلى جشع أهل الدنيا في أبشع صورة حيث يم استغلال الشهر الفضيل والعمرة فيه برفع أسعار الفنادق ومحلات السكن بالمقارنة مع مواسم العمرة العادية وبشكل أكثر من مضاعف مما يدفع فقراء الحال ممن يريدون أداء العمرة إلى التقهقر للسكن في مساكن بعيدة مناسبة للسعر، ولك أن تتصور المسافة التي يقطعونها للوصول إلى الحرم لأداء الصلوات الخمس بعد مناسك العمرة، أما بالنسبة لطريقة أداء تلك المناسك فهناك أكثر من خلل، أولاً هناك من يصر على أداء العمرة سنوياً خصوصاً من كان سكنه مجاوراً وهذا لا يستثنى أيضاً من يأتي من بعيد مما ينتج معه زخم يجعل من أداء العمرة أمراً شاقاً بسبب الزحام الذي يخلقه كثرة المعتمرين ولو أنهم أدوا العمرة مرة كل خمس سنوات مثلاً لكان كافياً لإيجاد جو من الخشوع يضفي على العمرة ما تستحقه، ومن قال كلمة زحام يرى تدافع الناس وفيهم من يجهل أن الخشوع بدون زحام هو جوهر العبادة فتراه بسبب قوة بنية جسمه يدفع الناس بمن فيهم النساء في الطواف والسعي، وبالنسبة للأخير فإنك حين تبدأه بالقول «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم» أمام قدسية هذا المكان والقول تسمع في نفس الوقت معتمراً يتكلم في هذا الاختراع العجيب المسمى بالجوال في مواضيع دنيوية غير عابئ بتلك القدسية وحين تبدأ بالهرولة قائلاً ربي اغفر وارحم واعف وتكرم وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم إنك أن الأعز الأكرم، تسمع اثنين وأكثر من المعتمرين يتحادثون في شيء دنيوي وهم يهرولون. بين الصلوات ينام المعتمر في الحرم ثم يصحو بعضهم لأداء الصلاة التالية لنومه دون وضوء، يقرأ القرآن بين الصلوات أو قبلها أو بعدها فتسمع مجموعة من المعتمرين يتكلمون في شؤون لا تمت إلى الوعظ والإرشاد بصلة وفي نفس الوقت يحدثون تشويشاً على من يقرأ القرآن، لا بل تحدث بين الفينة والأخرى مشادات كلامية لأسباب دنيوية، وكل هذا في الحرم الشريف. أخلاق الناس في رمضان لا يطرأ عليها الشيء الكثير من ناحية حسن المعاملة واللين والطيبة والخشوع وتهذيب النفس يحدث فرقاً بين رمضان وباقي أشهر السنة. رمضان له ما يميزه وأكثر، نزول القرآن فيه، الصوم وفوائده، الفتوحات الإسلامية التي غيرت مجرى التاريخ، القيام، التراويح، ومضاعفة في الأجر والثواب. ألا تستحق كل هذه المميزات تغيراً جذرياً في سلوك المسلم يقربه أكثر إلى خالقه عز وجل، إن كان شاكراً على نعمه التي أعطاها إياه أو تعبداً وتقرباً وعملاً أكثر للتحضير للآخرة التي هي دار القرار والمطلوب الاثنان معاً الشكر والتعبد.
الملاحظ أن هناك هوة بين «الرمضان المعتاد» و»الرمضان الآخر» بسبب أن ما يمارسه بعض المسلمين لا يرقى إلى المنزلة التي أرادها الخالق أن يحظى بها رمضان بين عباده مما نتج عنه بعض التصرفات المشار إليها أعلاه. الذي لا تدركه تلك الفئة من المسلمين هو أن الرمضان الذي يجب أن يكون هو من قبيل الفرصة التي تعطى للعبد لتنقية نفسه من كل الشوائب التي علقت بها في الـ11 شهراً الأخرى حتى يعيش سعيداً في دنياه مثاباً في آخرته، وهذه الفرصة تتكرر كل عام لكن من الذي يضمن عمره، ويوصى دائماً بعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد لكن العقيدة الإسلامية واجب يصب في مصلحة المسلم، دنيا وآخرة. أما إذا تم التطرق إلى عملية الإجبار في الواجب فعندها يكون أداء الموظف غير مرضٍ تماماً كتصرفاته خلال الرمضان المعتاد، يوجه رئيسه له أنذراً لمدة محدودة فإن لم يتحسن أداؤه يفصل من العمل، فتراه خلال مدة الإنذار يعمل المستحيل ليتفادى الفصل وفي باله مصروفاته وينجح بعد المثابرة في الحفاظ على عمله. هذا في ما يتعلق برئيس ومرؤوس ووظيفة، فما بالك بالخالق الذي أوجدك في الكون ولم يتركك بل وفر لك كل شيء حتى تعيش قانعاً سعيداً. حين يزف لك رئيسك النبأ السعيد المتمثل في قراره السماح لك بمواصلة العمل تمطره بكل عبارات الشكر والامتنان هذا غير التبجيل والحب على الخشوم والاستعداد لعمل كل شيء لأجله قياساً بحجم الوظيفة وكمية الراتب فما بالك بالذي أوجد رئيسك ووظيفتك وأنت وجميع الرؤساء والوظائف والموظفين والكون ومن عليه، ألا يستحق الشكر والعبادة، هل العذر بأنك ترى رئيسك ولا ترى خالقك، لكنه يراك، وهو يقول لك إن رمضان فرصة لتكثر من شكري وعبادتي وسأجزيك بالأجر والثواب أكثر بكثير من أكرم رئيس.
لذا فالمؤمل أن تتقلص الهوة بين الرمضان المعتاد والرمضان الآخر بل أن تتلاشى حتى يعم الأخير قولاً وعملاً، تصرفاً وسلوكاً.
السفير الدكتور جاسم بن محمد بوعلاي
في الوقت الذي يصعب فيه التعميم على كل المسلمين فإن هناك البعض منهم ليس له هذا الرمضان الآخر الذي أن يكون بمعنى الشهر المكرس للعبادة الصالحة والمركزة مقرونة مع حسن المعاملة مع الناس. هذا النوع من المسلمين اختطوا لأنفسهم رمضان مربوطاً بالمصالح الدنيوبة وصلت إلى حد استغلال الشهر الفضيل لأغراض هي أبعد ما تكون عما وجد رمضان لأجله وقد انعكس هذا التوجه الخاطئ على معاملتهم مع الناس التي أتت هي الأخرى بالضرورة سلبية وضارة، وبالتالي بدل استغلال رمضان لمنفعة المسلم الأخروية تم استعماله لمقاصد دنيوية وهو بالضبط الاتجاه المعاكس.
بعد ترك متعهدي الرمضان الآخر يتعبدون بهدوء وخشوع بينهم وبين ربهم متبعين تعاليمه ومنصتين لوعظ وإرشاد علماء دينهم، يجب التطرق إلى طرق وأساليب عباده من سخروا رمضان لدنياهم والبدء بممارستهم لتلك العبادة. لو تابعنا أحدهم متوجهاً بسيارته إلى المسجد لرأيته يوقف سيارته في موقف يعيق غيره أو في الشارع كل هذا بحجة توجهه للمسجد وعلى الرغم من جميع التنبيهات بغلق بالهواتف النقالة إلا أن هذا لا يعنيه ولو حدث وجاءته مكالمة أثناء الصلاة لطار تركيزه في لحظة وأزعج الناس بصوت هاتفه، وبمجرد أن يسلم الإمام تراه يترك المسجد، وإن لم يكن هذا حاله تراه هو وأمثاله يحولون مكان العبادة إلى مقهى للحديث المرتفع الصوت حال انتهاء الصلاة ناسياً أو متناسياً أن هناك من يريد أن يتسنن أو يقرأ القرآن خصوصاً في رمضان، وعندما ينبه بواسطة الغير إلى وجوب الخشوع والهدوء تراه يستنكر ذلك التنبيه، ويا ليت مواضيع الحديث كانت موعظية لكنها في الغالب دنيوية. من هذه الفئة من المصلين هناك من يصلي بصورة آلية ميكانيكية تخلو من التركيز والتبصر والتأني فيما يقول فترى المصلي يركع ويسجد كانه روبوت متحرك. ومن هؤلاء من يستوقفه أحد وينهاه عن الغيبة والنميمة في حديثه أو بوجوب تبني صوم الجوارح من نظر وسمع ونطق لسان، وإذا كان لا ينتمي إلى فئة الناس «اللي كاشفين راسهم موليه» تراه يبدأ الحديث على استحياء قائلاً «والله الواحد صايم ولا وده يقول..» ثم يسترسل «حاشاً» الأولي والتالي. يخرج هذا من المسجد ويذهب لقضاء حاجاته التي منها التبضع لمزيد من المأكولات مع أنه ملأ البيت مسبقاً قل رمضان متلهياً إلى قبل دقائق من مدفع الإفطار ليركب سيارته ويسوقها بسرعة جنونية خطرة حتى يكون في موعد الإفطار لا لأخذ تمرة وشرب قطرة ماء وإنما لملء البطن من الطعام والشراب لدرجة تصعب معها الحركة مع أن المفروض هو الاقتصاد في الأكل والشرب حتى يحس الصائم بأن هناك من لا يملك عشر ما يملكه صاحبنا من الطعام والشراب. قد يقول «لا تدوشوني بالجوع وغيره هناك أهل الخير وإفطار صائم إلخ» لكن ما هو شعورك كصائم، هذا الشعور يجب أن تحسه أنت وإلا هل تريد أن تستأجر أيضاً فقيراً ليحس بذلك ثم أنك بتخمتك تشتري المرض، ألم يقل سيد المرسلين صوموا تصحوا ثم ألم يقل إن المعدة بيت الداء والحمية هي الدواء. بعدها يذهب صاحبنا كعادته السنوية إلى المسجد ليصلي العشاء والتراويح، عشر ركعات إذا كانت عشرين ركعة وأربع إذا كانت ثمان حتى منتصف رمضان ثم يودع المسجد بقوله إلى اللقاء «السنة الياية».
في عالم اليوم الذي تلعب فيه وسائل الاتصالات الحديثة دوراً مهماً يجري بطبيعة الحال إعلامنا بقرب حلول شهر رمضان بفترة لا بأس بها وهذا الشيء جيد إذا كان بصفة عامة ينفع الناس والعكس صحيح إذا فيه ضرر لهم فالدعوة إلى تكديس الأكل والشرب قبل رمضان مع ما يصاحبه من إرهاق لميزانية العائلة غير مستحب كأننا مقبلون على حالة حرب مع إن البضائع متوفرة قبل وخلال وبعد رمضان بنفس الكميات تقريباً، ومن قال إعلام في هذا الصدد تتجه أنظاره إلى التلفزيون وبالتحديد إلى المسلسلات لا إلى برامج الوعظ والإرشاد الأخذة في التناقص عاماً بعد عام فاسحة المجال بالنتيجة لمزيد من المسلسلات ويا ليت كانت الخيرة تتمحور حول فكرة يستفيد منها المشاهد وإنما تحوم حول موبقات كالسكر والعربدة والغش والخداع لتنتهي نهاية إيجابية في آخر حلقة مع صرف طوال أيام الشهر الفضيل في تصوير الشر هذا لفظاً أما مشاهدة فترى العنصر النسائي الشاب في التمثيل «يتزوغ» بشكل مبتذل مع تجسيد أدوار الإغراء بتفنن كل هذا في شهر الصوم والعبادة بحجة الترويح عن النفس بعد الإفطار. ثم هناك المسلسلات الخليجية التي تعج بالدراما والمآسي من بكاء مفرط ومشوه وضرب ونكد عيش لدرجة أن الدموع تكاد تفيض من الشاشة إلى بساط حجرة التلفزيون وغير واضح أين الترفيه من كل هذا. التجارة والتجار لها ولهم الباع الطويل في رمضان، فمنذ اللحظة الأولى التي يسمع فيها عبر التلفزيون مدفع الإفطار تتوجه الشركات بالتمنيات لإفطار هنيء للمشاهدين ويلاحظ أن القائمة طويلة بحيث إن المذيع لا ينطق هذا التمني بخشوع يرقى إلى مستوى الشهر الفضيل وإنما يقول بطريقة ميكانيكية أقرب ما تكون من غرضها التجاري، ثم هناك العروض الترويجية بمناسبة رمضان والتي لا تخلو من الشروط والطرق الملتوية في تحقيق أغراضها. أما أن يكون ترويجاً بريئاً فلا بأس لكن المشكلة أن المصاريف الضرورية في رمضان تتبعها مصاريف العيد ترهق ميزانيات العائلات المحتاجة بحيث لا يتبقى شيء منها لمصاريف الكماليات إذا ما فائدة الترويج على الأخيرة.
ظاهرة أخرى من الرمضان «المعتاد» هو تكدس الأحياء بالخيم الرمضانية ويا ليت التسمية تنطبق عليها فبدل أن يجري تداول الأحاديث الدينية والتبصر في الدين داخلها تصرف الساعات وليس السويعات في الحديث العادي أولاً ثم في لعب الورق والدومينة والكيرم من بعد التراويح حتى أذان الفجر وربما بعد ذلك وهذا ليس من رمضان في شيء بل هو دخيل عليه ولك أن تتصور مدى خمول الموظف بعد هذا السهر الطويل الأمد حين يتوجه إلى عمله في اليوم التالي، لذلك تسمع في دواوين الوزارات والمصالح الأخرى كلاماً مفاده الطلب من المراجعين إعطاء الموظفين وقتاً أطول لإنهاء معاملاتهم بسبب رمضان وصيامه وكأننا في هذا نتهم الشهر الفضيل بأنه مسؤول ضمناً عن تعطيل مصالح الناس، والظاهر أن بعضهم قد وجد حلاً دنيوياً جذرياً لهذه المعضلة فما أن يقترب حلول الشهر الكريم حتى يأخذ إجازته السنوية التي تستمر طوال فترته لا ليكرسه للعبادة ولكن لمضيعة الوقت في الذي يجري داخل الخيمة الرمضانية من سهر ولعب. ويشتق من ظاهر الخيام الرمضانية هذه ما هو أبعد من ذلك ويتمثل في الخيام الفندقية التي توجد بداخلها مسارح تعج بالمغنيين بألحان راقصة في صالح الزبائن الذين يحيطون بالطاولات العامرة بمختلف أنواع المأكولات والشيشة. جو لا يمت إلى رمضان بصلة ومع ذلك فهناك إصرار دعائي أن هذه الظاهرة الشاذة هي للاحتفاء بالشهر الفضيل، وفي هذا تناقض واضح، إذ يصوم العبد نهاراً ثم يذهب ليلاً ليأكل حتى التخمة ويسمع أغاني مجونية ويدخن الشيشة الضارة. تدخل تلك الخيام وإذا بك ترى سحب من دخان الشيشة تعلو الطاولات في الوقت الذي ترى وتسمع فيه حملات التوعية من مضار التدخين حتى على الذي لا يدخن لكن يجلس مع مدخنين، هذا بالنسبة للسجائر فما بالك بالشيشة ومن السخرية أن تسمع أن معسل البحرين مرغوب في مصر وبالتالي صرنا نتاجر بصحة الآخرين.
يتزايد الإقبال على أداء العمرة في رمضان تيمناً بحديث خاتم الأنبياء والرسل بأنه من اعتمر في رمضان فكأنما حج معه صلى الله عليه وسلم وهنا يتجلى جشع أهل الدنيا في أبشع صورة حيث يم استغلال الشهر الفضيل والعمرة فيه برفع أسعار الفنادق ومحلات السكن بالمقارنة مع مواسم العمرة العادية وبشكل أكثر من مضاعف مما يدفع فقراء الحال ممن يريدون أداء العمرة إلى التقهقر للسكن في مساكن بعيدة مناسبة للسعر، ولك أن تتصور المسافة التي يقطعونها للوصول إلى الحرم لأداء الصلوات الخمس بعد مناسك العمرة، أما بالنسبة لطريقة أداء تلك المناسك فهناك أكثر من خلل، أولاً هناك من يصر على أداء العمرة سنوياً خصوصاً من كان سكنه مجاوراً وهذا لا يستثنى أيضاً من يأتي من بعيد مما ينتج معه زخم يجعل من أداء العمرة أمراً شاقاً بسبب الزحام الذي يخلقه كثرة المعتمرين ولو أنهم أدوا العمرة مرة كل خمس سنوات مثلاً لكان كافياً لإيجاد جو من الخشوع يضفي على العمرة ما تستحقه، ومن قال كلمة زحام يرى تدافع الناس وفيهم من يجهل أن الخشوع بدون زحام هو جوهر العبادة فتراه بسبب قوة بنية جسمه يدفع الناس بمن فيهم النساء في الطواف والسعي، وبالنسبة للأخير فإنك حين تبدأه بالقول «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم» أمام قدسية هذا المكان والقول تسمع في نفس الوقت معتمراً يتكلم في هذا الاختراع العجيب المسمى بالجوال في مواضيع دنيوية غير عابئ بتلك القدسية وحين تبدأ بالهرولة قائلاً ربي اغفر وارحم واعف وتكرم وتجاوز عما تعلم إنك تعلم ما لا نعلم إنك أن الأعز الأكرم، تسمع اثنين وأكثر من المعتمرين يتحادثون في شيء دنيوي وهم يهرولون. بين الصلوات ينام المعتمر في الحرم ثم يصحو بعضهم لأداء الصلاة التالية لنومه دون وضوء، يقرأ القرآن بين الصلوات أو قبلها أو بعدها فتسمع مجموعة من المعتمرين يتكلمون في شؤون لا تمت إلى الوعظ والإرشاد بصلة وفي نفس الوقت يحدثون تشويشاً على من يقرأ القرآن، لا بل تحدث بين الفينة والأخرى مشادات كلامية لأسباب دنيوية، وكل هذا في الحرم الشريف. أخلاق الناس في رمضان لا يطرأ عليها الشيء الكثير من ناحية حسن المعاملة واللين والطيبة والخشوع وتهذيب النفس يحدث فرقاً بين رمضان وباقي أشهر السنة. رمضان له ما يميزه وأكثر، نزول القرآن فيه، الصوم وفوائده، الفتوحات الإسلامية التي غيرت مجرى التاريخ، القيام، التراويح، ومضاعفة في الأجر والثواب. ألا تستحق كل هذه المميزات تغيراً جذرياً في سلوك المسلم يقربه أكثر إلى خالقه عز وجل، إن كان شاكراً على نعمه التي أعطاها إياه أو تعبداً وتقرباً وعملاً أكثر للتحضير للآخرة التي هي دار القرار والمطلوب الاثنان معاً الشكر والتعبد.
الملاحظ أن هناك هوة بين «الرمضان المعتاد» و»الرمضان الآخر» بسبب أن ما يمارسه بعض المسلمين لا يرقى إلى المنزلة التي أرادها الخالق أن يحظى بها رمضان بين عباده مما نتج عنه بعض التصرفات المشار إليها أعلاه. الذي لا تدركه تلك الفئة من المسلمين هو أن الرمضان الذي يجب أن يكون هو من قبيل الفرصة التي تعطى للعبد لتنقية نفسه من كل الشوائب التي علقت بها في الـ11 شهراً الأخرى حتى يعيش سعيداً في دنياه مثاباً في آخرته، وهذه الفرصة تتكرر كل عام لكن من الذي يضمن عمره، ويوصى دائماً بعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد لكن العقيدة الإسلامية واجب يصب في مصلحة المسلم، دنيا وآخرة. أما إذا تم التطرق إلى عملية الإجبار في الواجب فعندها يكون أداء الموظف غير مرضٍ تماماً كتصرفاته خلال الرمضان المعتاد، يوجه رئيسه له أنذراً لمدة محدودة فإن لم يتحسن أداؤه يفصل من العمل، فتراه خلال مدة الإنذار يعمل المستحيل ليتفادى الفصل وفي باله مصروفاته وينجح بعد المثابرة في الحفاظ على عمله. هذا في ما يتعلق برئيس ومرؤوس ووظيفة، فما بالك بالخالق الذي أوجدك في الكون ولم يتركك بل وفر لك كل شيء حتى تعيش قانعاً سعيداً. حين يزف لك رئيسك النبأ السعيد المتمثل في قراره السماح لك بمواصلة العمل تمطره بكل عبارات الشكر والامتنان هذا غير التبجيل والحب على الخشوم والاستعداد لعمل كل شيء لأجله قياساً بحجم الوظيفة وكمية الراتب فما بالك بالذي أوجد رئيسك ووظيفتك وأنت وجميع الرؤساء والوظائف والموظفين والكون ومن عليه، ألا يستحق الشكر والعبادة، هل العذر بأنك ترى رئيسك ولا ترى خالقك، لكنه يراك، وهو يقول لك إن رمضان فرصة لتكثر من شكري وعبادتي وسأجزيك بالأجر والثواب أكثر بكثير من أكرم رئيس.
لذا فالمؤمل أن تتقلص الهوة بين الرمضان المعتاد والرمضان الآخر بل أن تتلاشى حتى يعم الأخير قولاً وعملاً، تصرفاً وسلوكاً.
السفير الدكتور جاسم بن محمد بوعلاي