لا تجد نصرانياً معتدلاً إلا ويعتز ويترضى عن الخليفة العادل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، الذي أنصف أسلافهم عبر عهدته المشهورة «العهدة العمرية»، والتي أسند تنفيذها للقائد العربي المسلم الفاتح أبوعبيدة ابن الجراح ووالي مصر الصحابي عمرو بن العاص، والتي كانت تخص نصارى إيلاء «بيت المقدس» في السنة الـ16 للهجرة.
تلك العهدة التي أعطى بموجبها الخليفة العادل للنصارى الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وألا تنتزع من عهدتهم ولا تسكن من بعدهم ولا تهدم ولا ينقص من حيزها ولا يكرهون على دينهم. ثم خطب الخليفة الراشد في أهل بيت المقدس قائلاً «يا أهل إيلياء.. لكم ما لنا وعليكم ما علينا»، ثم دعاه البطريرك صفرونيوس لتفقد كنيسة القيامة، فلبى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها فالتفت إلى البطريرك وقال له: «أين أصلى؟»، فقال «مكانك صل»، فقال: «ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجداً».
نفذت فقرات تلك العهدة بحذافيرها ولم ينقص منها شيء، بل أصبحت مصدراً ونبراساً سرعان ما انتشرت في كل بقاع الأرض التي وصلها المسلمون فاتحين، فعاش النصارى بعده في أكناف الخلافات والحكومات الإسلامية المتعاقبة إلى يومنا هذا معززين مكرمين، لا يعكر صفو حياتهم شيء، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل إنهم انصهروا في بوتقة العالم الإسلامي، حيث إن كثيراً من أعرافهم وتقاليدهم وأطباعهم هي صورة مكررة للمجتمع المسلم، وكثير منهم فضل البقاء في البلدان العربية على الهجرة لأوروبا في أحلك الظروف لصعوبة تكيفهم على العادات والتقاليد هناك.
تغير هذا الحال بعد استقرار دام لقرون، خاصة حال النصارى في بلاد وادي الرافدين بعد احتلاله عام 2003 وتمكن إيران الصفوية من كل مفاصله، حيث عمد المحتل بالتعاون مع العدو التقليدي للعرب من إزاحة الأمة السنية من المشهد العراقي، وسلمت زمام الأمور لمجموعة قتلة وسراق وأرباب سوابق ومؤسسي ميليشيات ومنظمات إرهابية، عمدوا لعقد من الزمان على تصفية كل ما يمت لأهل السنة بصلة؛ بل تجاوزوا ذلك لكل عقيدة ومذهب وملة لا تقر بالولاية وبحجج واهية؛ مثل اجتثاث البعث ومحاربة الوهابيين والإرهابيين والقاعدة وأخيراً مقارعة الثوار والمنتفضين، حيث تدك يومياً مدنهم ويتم استهداف العزل منهم وتدمير البنى التحتية وحجب كل سبل الحياة الكريمة عنهم، بحجة القضاء على المجموعات المسلحة وداعش.
كل هذه الاختناقات والانسدادات التي عمدت أن تسلكها حكومة المالكي بتوجيه وإشراف المرشد الأعلى وتفاهمات إقليمية مشبوهة أدت إلى الانتفاضة المسلحة التي ركب أعلى الموجة فيها مسلحو الدولة الإسلامية، والتي وجدت حاضنة دافئة لها بسبب ظلم وجور حكومة الاحتلال وأذنابهم، مما وضع الثوار والمنتفضين في موقف لا يحسدون عليه بالتحالف حتى مع الشيطان قبل أن يمد يد العون لهم لإنقاذهم من بطشهم وجورهم، وبعد أن انقشع غبار المعركة برز دور الدولة الإسلامية التي تصدرت المشهد، وخاصة في محافظة نينوى، لأسباب مازال المراقبون للشأن العراقي يعدونها لغزاً محيراً، حيث تقفز للأذهان علامات استفهام كبيرة!
أين دور ثوار العشائر والمنتفضين بعد شهر ونيف من انجلاء ميليشيات المالكي؟
أين موقف كبار ضباط الجيش العراقي السابق والوطنيين مما يجري الآن هناك؟
أين موقع باقي الفصائل المسلحة ومن يتسيد دفة الحكم والإدارة هناك؟
وما زاد في تأزم الموقف بعد انسحاب وطرد تلك الميليشيات من الموصل وبسط نفوذ المسلحين والثوار عليها، هو التسارع في تغيير أعراف وتقاليد مدينة عريقة ذات حاضرة ضاربة في عمق التاريخ البشري والإسلامي العربي.
حيث بدأها البغدادي بخطبته الشهيرة في تنصيب نفسه خليفة للمسلمين من فوق منبر الجامع النوري الكبير، وأعقبتها إزالة كثير من المزارات والآثار من المدينة وأقضيتها وقصباتها بدعوى أنها أماكن شركية، والكل يعلم أنها لا تتعدى كونها آثاراً وشواخص لم يقصدها الناس يوماً للتعبد، ثم تلاها إصدار العديد من الوثائق التي هي بصيغة فروض وأوامر تلزم الناس تطبيقها حرفياً، وكأنها دستور بصحائف لها طابع شرعي.
آخر تلك الوثائق هي وثيقة التعامل مع نصارى الموصل، حيث خيرهم الوالي بثلاثة أمور لا رابع لها:
-1 الدخول في الإسلام طوعاً أو كرهاً.
-2 دفع الجزية لبيت المال.
-3 مغادرة أرض الإسلام خلال فترة وجيزة لم تتعدَ أربعة أيام انتهت في يوم السبت الماضي 19/7/2014.
وتناسى ذلك الوالي أو غاب عنه بأن للجزية أحكامها وشروطها التي قد لا تنطبق على نصارى نينوى، ثم كيف سمح لأتباعه أن يسلبوا العوائل التي لم ترضَ بوثيقته، فبادروا باستملاك دورهم وجردوهم من كل أموالهم وأمتعتهم، بل حتى أجبروهم على الترجل من عجلاتهم لصالح الدولة الإسلامية المزعومة.
وإن كان الذي جرى هو تشويه لحكمهم فلم لم يسارعوا ويتبرؤوا ويستنكروا ما حدث ويعيدوا الحقوق لأهلها.
هم من يدير أمور المدينة ويتحملون كل المسؤولية الدينية والأخلاقية بالحفاظ على أرواح الناس وممتلكاتهم بكل طيفهم وأطيافهم، ثم ألم ينبه الناس ذلك الوالي بخطبته العصماء عندما قال «أطيعوني ما أطعت الله فيكم وناصحوني!».
ماذا سيقول ذلك الوالي ومريدوه عندما يلقون الله وقد تحملوا آثام الآلاف من أطفال وعجائز ومرضى النصارى، والذين لا ذنب لهم سوى حبهم لوطنهم وتعلقهم بترابه وأهله.
ألم يطرق سمع ذلك الوالي الذي اعتلى منبر رسول الله يوماً قوله تعالى «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، وقوله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».
أما كان حرياً به وباتباعه، وهم يدعون إلى الإسلام، أن يقتدوا بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أوصانا بأهل الذمة، حيث قال «من آذى ذمياً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله».
ولا أظن أن كليات العلوم الإسلامية ومعاهدها التي قد تخرج منها الوالي، وربما الكثير من أتباعه، قد أغفلت تدريس طلابها العهدة العمرية التي تعتبر أهم وثيقة من وثائق الخلافة الراشدة، وما ترسخ منها من مفاهيم تنظم العلاقة المتميزة بين المجتمع الإسلامي وأهل الكتاب، والتي التزم بها كل الخلفاء والولاة والحكام من بعده.
لله درك يا من أنصفت النصارى وكل البشر يا عمر الفاروق.. واتق الله يا بغدادي في نصارى نينوى فهم الجذر ونحن العروق.