في الاقتصاد الرأسمالي أو ما يعرف باقتصاد السوق فإن النشاط الاقتصادي سواء حالات الانتعاش أو الانكماش يأخذ في الواقع شكل دورات اقتصادية تتحدد وفقاً لها ارتفاعاً أو نزولاً مستويات الإنتاج والبطالة ومعدلات النمو وأسعار الفائدة وغيرها. ولقد شهدنا خلال الدورة الاقتصادية الماضية ومنذ بدء الأزمة المالية الأخيرة انخفاض مستويات النمو الاقتصادي العالمي وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض غير مسبوق في أسعار الفوائد.
ومع قرب الخروج من الأزمة المالية بالذات في أهم اقتصاديات العالم مثل أمريكا وبريطانيا نكون قد أوشكنا على الانتقال إلى دورة اقتصادية جديدة حيث ترتفع فيها معدلات النمو وتنخفض مستويات البطالة وتبدأ فيها مرحلة ارتفاع أسعار الفوائد.
وعلى الرغم من أن اقتصاد المجموعة الأوروبية ما زال متأخراً في دورة الانكماش إلا أن اقتصاد العالم بحكم حجم وأهمية الاقتصاد الأمريكى وارتباط دول كثيرة من العالم بوضع الاقتصاد والدولار الأمريكى فإننا نتوقع أن بدء ارتفاع سعر الفائدة على الدولار، سينعكس على دول كثيرة من العالم بما يشمل الدول العربية.
وفي الواقع فإن رفع أسعار الفوائد عن المستويات الحالية ما هو إلا عودة إلى الأوضاع الطبيعية للسياسات النقدية حيث إن السياسات المتبعة منذ نشوء الأزمة المالية وحتى الآن ما هي إلا سياسات استثنائية غير طبيعية.
ودون شك فإن هذه السياسات الاستثنائية كانت مطلوبة كما أنها ساعدت في تحفيز الاقتصاديات المعنية على التعافي والخروج من الركود والانكماش. إلا أنها من ناحية أخرى قد أغرقت الأسواق بأموال رخيصة وسيولة هائلة حفزت الأفراد والمؤسسات على السعي لتوظيفها في مختلف الأصول بما فيها تلك عالية المخاطر.
على صعيد آخر فإن خفض أسعار الفوائد إلى مستويات متدنية أدى إلى وصول أسعار الفوائد الحقيقية إلى معدلات سالبة لا تشجع على الادخار بل على العكس تدفع بالمدخرين إلى أخذ مخاطر مرتفعة بما يشمل دخول مجال المضاربات سواء في أسواق الأسهم أو العقار، لذلك وجدنا بعض المؤسسات المتخصصة مثل بنك التسويات الدولية وجه منذ عدة أشهر بالإسراع في الخروج من ظل الأزمة المالية وضرورة العودة بالسياسات النقدية إلى وضعها الطبيعي في أقرب فرصة ممكنة.
إن مثل هذه التطورات لها بالطبع علاقة بأوضاعنا الاقتصادية حيث إن ارتفاع أسعار الفوائد على الدولار سيؤثر بشكل أو بآخر على أسعار الفوائد لعملات دول المنطقة المرتبطة بالدولار. هذا سينعكس على تكاليف التمويل بغض النظر عن طبيعة الدورة الاقتصادية التي تعيشها دول المنطقة، حيث قد نشهد في نفس الوقت استمراراً في تراجع أسعار النفط الأمرالذي سيعمل على خفض مستوى الإيرادات البترولية للمنطقة بما من شأنه أن يقود إلى التباين في الدورات الاقتصادية بين الاقتصاد الأمريكى واقتصاديات دول المنطقة على الرغم من ارتباط السياسات النقدية للمنطقة بما يتم
اتخاذه على صعيد الدولار الأمريكي. وهذه في الواقع ليست المرة الأولى التي نشهد فيها تبايناً في الدورات الاقتصادية وتطابقاً في السياسات النقدية.
لكن السؤال المطروح الآن هو إذا كانت أهم اقتصاديات العالم والمقصود هنا الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد البريطاني مقبلين على دورة اقتصادية جديدة من النمو وبالتالي مقبلين على رفع أسعار الفائدة فعلى ماذا يتوقف مثل هذا القرار؟ في الواقع أن السياسة النقدية وموضوع رفع سعر الفائدة لا يتحدد فقط وفقاً لمستوى التضخم ولكن يتوقف أيضاً على مستوى البطالة.
هذا وعلى الرغم من أن معدل البطالة وبخاصة في كل من أمريكا وبريطانيا قد انخفض بشكل كبير إلا أن مستوى الأجور لم يتحسن بالشكل المتوقع. ويبدو أن عدم تحسن وضع الأجورفي الوقت الذي تنخفض فيه معدلات البطالة بدرجة ملحوظة يرجع إلى انخفاض مشاركة الأيدي العاملة في سوق العمل، الأمر الذي يدل على أن الاقتصاد لا زال لا يعمل بكامل طاقته وأنه لا زال هناك مجال لمشاركة أكبر للأيدي العاملة قبل أن نصل إلى ما يعرف في الا قتصاد بالتشغيل الكامل.
وحسبما يبدو أن هناك أسباباً عديدة تحول في الوقت الحالي دون الوصول إلى مستوى التشغيل الكامل على الرغم من التحسن الملحوظ في سوق العمل، أحد هذه الأسباب هو أنه على إثر الأزمة المالية وتقلص فرص العمل بسببها فقد أدى ذلك إلى أن بعض الباحثين عن العمل قد فقد الأمل في الحصول على وظيفة ولم يعد يبحث عن فرصة للعمل إضافة إلى أن بعض الباحثين من النساء قد قرر بعد فترة من البحث الاهتمام والتركيز أكثر على
تربية الأطفال بدلاً من الاستمرار في البحث عن عمل، هذا إضافة إلى أن جزءاً هاماً من السكان قد وصل إلى مرحلة التقاعد في الوقت الذي لم تسعف فيه التركيبة السكانية على إحلال بدلاً منهم بالشكل الذي يحافظ على نفس مستوى المشاركة في سوق العمل.
أضف إلى ذلك أن مستوى الإنتاجية قد انخفض مقارنة بما كانت عليه في العقد الماضي الأمر الذي لم يساعد أيضاً على تحسين مستوى الأجور. كل هذه العوامل والأسباب لم تساعد ولم تعمل في صالح دعم مفاوضات رفع الأجور مما يفسر عدم تماشي مستوى الأجور مع التحسن الواضح في خفض معدلات البطالة.
وبناء على ذلك فإن استهداف التشغيل الكامل يحتاج كما يبدو إلى إصلاحات هيكلية ولا يرجع بالضرورة إلى طبيعة الدورة الاقتصادية. إذاً هل قرار رفع سعر الفائدة سينتظر الإصلاحات الهيكلية في سوق العمل للوصول إلى التشغيل الكامل؟ في اعتقادي لا يبدو أن هناك متسعاً من الوقت حيث إن قرار رفع سعر الفائدة في كل من بريطانيا وأمريكا هو في أغلب الظن أقرب مما هو متوقع.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي