تعيش محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل العراقية الواقعة على ضفاف نهر دجلة، والتي يقطنها ما يربو على ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف نسمة، أبهى وأحلى أيامها ولا ينغصها إلا حنق وغضب طغاة المنطقة الغبراء وإيغالهم في إيذاء أهلها، حيث لم يسرهم؛ بل قض مضجعهم ما آلت إليه المدينة من استقرار أمني لم تنعم به منذ عقد من الزمان، منذ أن دنست أقدام المحتل البغيض تربة أرض الرافدين العزيزة، ثم أتبعها أذناب المحتل وتربعهم على مقاليد حكمه، حيث زجوا فيها أكثر من ستين ألف عنصر أمن من أفراد الجيش والشرطة مدججين بأعتى الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ومخبرين سريين وعملاء وعشرات الميليشيات، لأنهم كانوا على علم اليقين أن هذه المدينة العريقة بتاريخها وأهلها إن انتفضت فذلك يعني نهاية حكمهم وطغيانهم.
استيقظ أهالي مدينة يونس عليه السلام صبيحة يوم العاشر من يونيو ليتفاجؤوا بهروب كل هذه القوات خوفاً من التلاحم مع الثوار، وتركوا وراءهم كل معداتهم وذخائرهم وبزاتهم ورتبهم ونياشينهم، ليرتدوا الثوب العربي «الدشاديش باللهجة العراقية» ويولوا هاربين صوب كردستان العراق، وهذا الهروب أصبح فيما بعد سمة لجيشهم المنهار، حيث بدأت فرقهم وألويتهم و«قطعاتهم» تتهاوى كقطع الدومينو إحداها تلو الأخرى.
لكن الذي يثير الدهشة والاستغراب هو ذلك التماسك الأمني والانضباط في الجهة المقابلة وعودة الحياة إلى طبيعتها بفترة زمن قياسية أذهلت العالم، خاصة التحول المفاجئ في مدينة الموصل، والتي تعتبر أكبر محافظة بعد العاصمة بغداد، حيث لم يسجل فيها أي خرق أمني أو اعتداء على أي مصرف أو مرفق حكومي ولا على ممتلكات المواطنين ومصالحهم لغاية هذه الساعة.
تنفست تلك المدينة الهادئة الجميلة الحانية -بين ثناياها نهر دجلة الخير، والتي تعرف أيضاً بـ«أم الربيعين»- الصعداء بعدما ضاق أهلها ذرعاً من بطش تلك الميليشيات، حيث عملوا طوال فترة أسرهم لها بممارسة كل أساليب القمع والاستهتار والتطاول على كل فرد في المدينة، بدءاً بمحافظها ونزولاً لأبسط إنسان فيها، فالجندي والضابط هنالك حسب توجيهات المالكي فوق القانون ولا تحرك أي دعوى قضائية ضده، حتى إن ارتكب أي جريمة وإن أباد العشرات، إلا بأمر منه، ولم تحصل أن وافق على إدانة أي منتسب رغم آلاف الجرائم والخروقات التي وقعت فيها.
عمدوا إلى تقطيع أوصال المدينة بكتل كونكريتية وجعلوا لكل حي مدخلاً ومخرجاً واحداً يذكرنا بمسلسل باب الحارة، ولا تكاد تسير بعجلتك مسافة 500 متر إلا وتعترضك سيطرة عسكرية تهين ركابها وتذلهم ليجتازوها إلى غيرها، بل حتى حوربت الناس في مصدر رزقها وكان يتحتم على كل صاحب حرفة ومصلحة أن يدفع الإتاوات لهذه الميليشيات عن طريق وكلاء لهم ليتمكن من مزاولة مهنته، وكانت عادة ما ينسب هذا الابتزاز إلى الجماعات الإسلامية، ومع كل هذه الإجراءات القسرية لا يكاد يمضي يوم إلا وتسمع دوي الانفجارات وهي تعصف بأرواح الأبرياء وكواتم الصوت عاملة ليل نهار لتصفية طياري وضباط الجيش السابق وأساتذة جامعتها وأطبائها ومفكريها وعلمائها ورجالات الإعلام فيها.
تغير الحال فجأة ولم نعد نسمع بأي خرق أو قتل أو تفجير أو دفع للإتاوات، مما لا يدع مجالاً للشك أن كل ما جرى من إجرام بحق هذه المدينة وأهلها كان يمارس من قبل هذا الجيش والميليشيات المنضوية تحته.
لم يمض أسبوعان على هذا الحال إلا وبدأ القلق والانزعاج يدبان في قلوب أكابر مجرميها وتلبسهم ذعر وخوف شديد من افتضاح سوء أعمالهم وانتقال هذا الربيع إلى المحافظات الأخرى التي تئن من ظلمهم، فعمدت أبواقهم الإعلامية بتشويه حال المدينة، وحاولوا إلصاق التهم والأباطيل بالثوار وأهلها، ولما فشلوا التجؤوا لشن حرب ضروس قاسية على أهلها بقطع كل متطلبات الحياة عنها وسط صمت دولي، حيث لا ماء صالح للشرب ولا كهرباء ولا وقود، وقطعوها عن العالم بحجب كل وسائل التواصل الاجتماعي، وحرموا كل كادرها الوظيفي من مصدر رزقهم بحجب رواتبهم، ولما لم يثنِ أهلها ذلك العقاب الجماعي حاولوا إرعابهم بطائرات إيرانية هزيلة حاولوا إيهام العالم أنها صفقة طائرات سيخوي الروسية، حيث انتصر الثوار بإسقاطها وافتضح بسببها أمر طهران، حيث تبين أن طياريها هم من سلاح الجو الإيراني، وأحدهم قد لقي حتفه في سماء تكريت وهي تستهدف البنى التحتية والعزل من الناس وتهرب مذعورة من مواجهة الثوار، وأرى أن القادم من الأيام سيكون أقسى بكثير مما مضى إن بقي المجتمع الدولي منقسماً بين متفرج ومؤيد للظالم ومتوجس ومناهض للمظلوم.
ملايين البشر يعيشون تحت ظروف قاهرة، حيث درجة حرارة الجو هنالك تقارب الـ50م، ولم يثنِ ذلك إخوانكم المسلمين من أداء مناسك فريضة الصيام والقيام، وقد حرموا من كل مستلزمات الحياة الكريمة، والتي لو حجبت عنا ساعات هنا في هذا البلد الطيب لتحولت حياتنا إلى جحيم.
تزحف الناس يومياً بعرس بهي مطمئنة إلى ضفاف دجلة الخير حاملين معهم وجبات إفطارهم وسحورهم ليؤدوا فريضة ربهم وليطووا ليلهم سجداً وقياماً في أقسى ظرف عرفته البشرية.. فلله درهم إنه ثمن الحرية الذي لا يوازيه ثمن.