هنا مشكلة تتطلب الكثير من البحث والدرس؛ حيث يلاحظ في البحرين أن الكثيرين من ذوي الفكر النير ممن يمتلكون قدرات عالية ومتميزة في تخصصهم وفي مجالات الحياة المختلفة ينصرفون عن الجمعيات السياسية ويكرهون الانتماء إليها ويتركونها للطارئين من فاقدي الخبرة والتجربة والمتشددين والمتعصبين وأصحاب الفكر الضيق، والذين لا يمكنهم أن يضيفوا مفيداً للعمل السياسي الذي هو في الأساس يرمي إلى الارتقاء بالمواطن والوطن. يتركون لهم الساحة ثم يتذمرون ويعبرون عــن ضيقهــم مـن أداء ومستوى السياسييــن الذيـــن بسبب تواجدهم في تلك الجمعيات صاروا يسيطرون على الشارع بشكل أو بآخر وتحولوا إلى قياديين ودليل قوم حتى بلغوا مرحلة إصدار الفتاوى وتوفر لهم من يدافع عنهم وعن آرائهم ومواقفهم.
الكلام هنا موجه بشكل مباشر إلى الأطباء وأساتذة الجامعات والمعلمين والمصرفيين ورجال الأعمال والمثقفين بشكل عام الذين ينضوون تحت عنوان المتنورين والقياديين. فهؤلاء ومن في مستواهم ومقدار علمهم وثقافتهم وخبرتهم ارتأوا أن يقفوا على الهامش ويكتفوا بدور المراقب و«المتحلطم» بــدل أن يقودوا عملية التنمية والبناء ويغلقــوا الباب في وجه من ليست هذه ساحته وليس «كاره».
ابتعاد هؤلاء عن الجمعيات السياسية نتيجته الطبيعية امتلاء تلك الجمعيات بمن هم دون مستواهم علماً وثقافة وفكراً وخبرة وتجربة وتنوراً، والنتيجة الطبيعية لهذا وذاك هو تحكم من هو غير مؤهل للقيادة في الشارع وحرفه عن السبيل الذي لو لم يتركه المتنورون لأعلى المجتمع من شأنهم ولما آلت الأحوال إلى ما آلت إليه اليوم وهي أحوال ما كان ينبغي أن نصل إليها.
هذه المشكلة لا بد من مناقشتها أولاً مع هؤلاء المؤهلين للعمل من خلال الجمعيات السياسية ممن يمتلكون كل ما تم ذكره من مميزات لمعرفة أسباب «تخلفهم» وابتعادهم عن العمل السياسي من خلال الجمعيات السياسية والتوصل إلى سبل استفادة المجتمع والوطن منهم، حيث ابتعادهم عن هذه الساحة يعتبر بشكل أو بآخر جريمة في حق الوطن والمجتمع.
انشغال هؤلاء بأعمالهم التي هي مصدر رزقهم لا يمكن أن يكون سبباً مقنعاً لأن من تركوا لهم الساحة مشغولون أيضاً بتدبير أمورهم المعيشية، والقول إن العمل السياسي ينطبق عليه المثل «الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريــح» هروب غير مقبول أبداً من أفـــراد مهمين في المجتمع وقادرين على القيادة ومطلوب منهم القيام بدور تنويري.
لا توجد مبررات مقنعة لهروب هؤلاء من الساحة والاكتفاء بالمراقبة وانتقاد الآخرين في المجالس، فهذا وضع لا يليق بهم وفيه ظلم كبير للوطن. خلو الساحة السياسية من التنويريين ورفعهم الراية البيضاء يعني تسلم الطارئين على العمل السياسي والمتشددين وضيقي الأفق قيادة المجتمع وتوجيهه، والنتيجة الطبيعية لمثل هذه الحال رأيناها في السنوات الثلاث الأخيرة على وجه الخصوص والتي تحول فيها من لا يعرف «كوعه من بوعه» إلى أساتذة وخبراء يناقشون ويرفضون ويمنعون ويأمرون ويخرجون البسطاء في مظاهرات بإشارة من إصبعهم.
ما يحدث في الساحة المحلية نتيجة عكوف التنويريين عن العمل من خلال الجمعيات السياسية مشكلة غير عادية وينبغي أن تناقش على أعلى مستوى، ويكفي أن هذا العكوف أوقع جمعيات سياسية لها تاريخها وسجلها الناصع في أيدي من يعاني من نقص في الخبرة والتجربة ومن وفرة في ضيق الأفق.
لولا ابتعاد هؤلاء عن الجمعيات السياسية لما رأينا أبداً تسليم جمعيات سياسية لها تاريخها وبصماتها في العمل السياسي «الخيط والمخيط» لجمعيات دينية ولشباب لا يمتلكون الخبرة في هذا الميدان، يأمرون ويهددون. لولا هذا لما ضاع قرار جمعيات لها مكانتها فصارت من دون قرار.
ليس مهماً الجمعية السياسية التي يختار التنويريون الانتماء إليها، فالمهم هو أن يعملوا ويتسلموا الراية فهم أهل لها.