لماذا لم نحقق لا التكامل الاقتصادي ولا الوحدة الاقتصادية؟ وأين ستقودنا المنافسة الاقتصادية التي مهما نجحوا في تشفيرها عمداً كي لا نفهمها إلا أنها المحرك للخلافات الخليجية في مصر وسوريا وليبيا؟!
إن من التجاوز الصارخ الحديث عن الخلافات الاقتصادية الخليجية بمسميات أخرى. ففي عام 1981 اقترحت دول الخليج تعاوناً بينها بمحرك سياسي، وقالت أخرى بل بتحالف عسكري، لكن فكرة الشيخ جابر الأحمد رحمه الله بأن يكون محرك قطار التعاون اقتصادياً رجحت. وسار القطار وصبغناه بالألوان الرملية والبنية والمبقعة تمويهاً من غارات الجيران أثناء حربهم. وطال الزمن الأمني حتى تعلم قطارنا حفر الخنادق والسير ببطء اعتاده حتى بعد زوال الخطر. وبعد انجلاء غمام الحرب وارتفاع أسعار النفط ووفرة العائدات منذ 2003 عادت المدن الخليجية للبحث عن هويتها الاقتصادية. فالكويت تريد أن تكون مركزاً مالياً وتجارياً، وتريد دبي بناء أكبر مركز تسوق في العالم. كما إن للمنامة والدوحة وبقية دول الخليج طموحاتها. وكانت هياكل التعاون الاقتصادي والمواطنة الاقتصادية جزءاً من النظام الأساسي للمجلس، حيث شكل التكامل والترابط في المجال الاقتصادي أحد الأهداف الأساسية للمجلس. فلماذا لم نحقق لا التكامل الاقتصادي ولا الوحدة الاقتصادية؟ وأين ستقودنا المنافسة الاقتصادية التي مهما نجحوا في تشفيرها عمداً كي لا نفهمها إلا أنها المحرك للخلافات الخليجية في مصر وسوريا وليبيا؟!
في مقاربة مشهد العلاقات الاقتصادية الخليجية تقفز للذهن العلاقات بين الجمهوريات التجارية البحرية الإيطالية لتشابه طبيعتها مع دول مجلس التعاون. فرغم وحدة اللغة والدين والأصل، والتقارب الجغرافي والاتفاقيات السياسية والاقتصاديـــة إلا أن التنافس للسيطــــرة على التجارة اشتعل بين تلك الدول ثم تحول إلى خلافات سياسية انتهت بحروب مدمرة. وكانت أكثر الجمهوريات البحرية الإيطالية شهرة هي «أمالفي» و«بيزا» و«جنـــوى» و«البندقيـــة». وقــد انضمت تلك الجمهوريات للحروب الصليبية لكن الدافع الديني تراجع أمام الدوافع الاقتصادية، حيث غيرت تلك الجمهوريات معسكرها، فمرة مع البيزنطيين ومرة مع الفرنسيين ومرة مع النورمنديين ومرة مع البابا ومرة ضده. لقد جمعت تلك الجمهوريات التحالف ضد المسلمين. لكن ذلك لم يكن مطلقاً، ففي الأسواق التي كانت تحت حكم الصليبيين اشترت الجمهوريات البحرية الإيطالية التوابل والأقمشة من المسلمين وباعوهم الجلود والمعادن. وفي زمن الحروب الصليبية انتعشت «الأسواق الصليبية» وكان بيع المدن الإيطالية السلاح للمسلمين في أيام الحروب الصليبية مستمراً رغم تنديد البابوات الأقوياء وتحريمهم التجارة مع المسلمين مثل اينوسنت الثالث 1198م «Inocent III». إلا أن تلك التجارة ظلت مزدهرة حيث قال أهل البندقية مقولتهم المشهورة «نحن أولاً تجار وثانياً مسيحيون». وفي زمن المدن التجارية حاربت «البندقية» «بيزا»، كما حاربت «جنوى»، وكان مسرحها أوروبا والشام. وكانت أكبر المعارك في ميناء عكا الفلسطيني خلال حرب القديس سابا عام 1298م. كما تقاتل أهل «بيزا» مع جمهورية «أمالفي». وكانت هناك حروب بين «البندقية» و«أنكونا» و«راغوزا»، حيث ساعد ملك ألمانيا البنادقة الذين احتلوا «راغوزا» لكنهم تركوها بعد تدخل المجريين. فسيفساء صراع الجمهوريات التجارية الإيطالية أكثر تعقيداً، ليس علينا فحسب بل حتى على الأوروبيين أنفسهم لسرعتها وتقلبها وقصر وقتها.
لقد أردنا من عرض صراع الجمهوريات التجارية الإيطالية خلق ما يشبه جسر العبور إلى اللحظة الراهنة في العلاقات الاقتصادية الخليجية. ولم نجد سوى الأساليب الأكثر تقليدية وهي العودة للتاريخ. ثم لموقع الأمانة العامة لمجلس التعاون حيث نجد قائمة تفوح منها رائحة القصور أكثر من عطور الإنجازات المبهجة في مجالات الاتحاد النقدي والعملة الموحدة، والاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة، والطاقة، والكهرباء والماء، والصناعة، والنقل والمواصــــلات، والاتصالات، والزراعــــة والمياه، والتخطيط والإحصاء والتنمية. لقد دأب صناع القرار الخليجي على التمويه على الخلافات الاقتصادية بقضايا السيادة والتدخل في شؤون الآخرين واختلاف وجهات النظر. ومهما نجحوا وهم يشفرونها عمداً، كما قلنا سابقا كي لا نفهمها إلا أننا ندرك أن بصمات صانع القرار السياسي في دول الخليج متداخلة مع صانع القرار الاقتصادي بشكل يصعب فرزها. «فالاختلافات» الخليجية في ردائها السياسي والسيادي في ليبيا ومصر واليمن وسوريا هي صراع «أمالفي» و«بيزا» و«جنوى» و«البندقية» نفسها علـــى أســواق الحـروب الصليبية. وربمــا لسنا بحاجة إلى «مكيافيلي» لتأليف كتاب الأمير «De principatibus» للتحريض على ظهور الوحدة القسرية الخليجية كما توحدت الجمهوريات التجارية المتنافسة وكونت إيطاليا الحالية 1815–1861م فنحن لا نريد 50 عاماً من الصراع. فهل تكون الوحدة الكونفيدرالية هي «الأمير» الذي ننتظره فنتكامل اقتصادياً ونكتفي شر التنافس سياسياً.
* المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج