في الآونة الأخيرة زادت النقاشات حول أصل تنظيم «داعش»، هل هو عربي وإسلامي المنشأ، أم هو صنيعة صهيونية غربية؟ وقد عبرت عن رأي منذ وقت باكر بأن «داعش» منتج محلي 100%، وأن أي اختراق مخابراتي غربي أو صهيوني لا ينفي أن صفوف «داعش» هي أبناء العرب والمسلمين وأنهم درسوا في الجوامع والزوايا المنتشرة في الأصقاع الإسلامية وليس في السهول الغربية أو الإسرائيلية، وأنهم تتلمذوا على أيدي بعض المشايخ الذين يتبرؤون منهم اليوم، وأنهم يستشهدون ببعض المراجع التراثية التي تدرس بعضها في الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية المعتمدة رسمياً في دولنا.
و»الداعشية» في حقيقتها هي منهج فكري ونمط حياة أكثر منه اتجاه ديني مذهبي. ولكنها قويت في جانبها الديني الذي استخدم لفترات زمنية طويلة لخدمة السياسة وتحولت هذه الجماعات لقوى ضاربة، تسمى «القاعدة» مرة، و»أنصار الشريعة» مرة أخرى و»السلفية الجهادية» تارة ثالثة. ولو قويت في جانبها الاقتصادي لكانت تلك الجماعات مثل رجال المافيا في إيطاليا وأمريكا اللاتينية والجنوبية. وهي حصيلة ثقافتنا الدينية في كونها نتاج مفاهيم إقصائية تم الترويج لها طويلاً مثل «البدعة، الفسوق، الفرقة الناجية، التقوى...»، ونتيجة لإغلاق باب الاجتهاد والثبات على آراء علماء القرن الرابع الهجري وما قبله لتصير آراؤهم بوزن النصوص المقدسة! وهي كذلك، نتاج ثقافة اجتماعية تهميشية كونها نشأت عن سلوكيات إقصائية مثل فرض آليات التفكير الأحادي ونبذ النقاش الإيجابي لصالح الجدل العقيم، وضعف التربية على حسن الاستماع للآخر وتقبل الرأي المغاير واحترام الاختلاف.
ونتيجة ما سبق نستطيع القول إن جزءاً لا يستهان به من مركبات الأفكار الداعشية هو في الحقيقة متأصل في ثقافتنا. وعليه فإن على كل واحد منا أن يحلل نسبة الداعشية في دمه عن طريق طرح العديد من الأسئلة، منها: كيف تنظر إلى الآخر المختلف؟ هل هو مصيب يرى من زاوية لا تراها أنت، أم هو مخطئ مجافٍ للحقيقة؟ حين تختلف وشخص آخر في قضية فقهية فتختار رأياً ويختار الآخر الرأي الثاني، هل تراه مارس حقه الشرعي في اختيار الفتوى التي تلائم ظرفه، أم أنه يتتبع الرخص الأمر الذي يوقعه في الشبهات؟
في حقيقة الأمر، لقد قابلت الكثيرين ممن يسردون قصص اختلاف الصحابة في فهم توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أقرهم النبي جميعاً، وسمعتهم يكررون كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب صحابته عن أسئلة مناسك الحج: افعل ولا حرج، وجميعهم يفسرون كيف غير الإمام الشافعي آراءه الفقهية حين انتقل من العراق إلى مصر. ولكن أغلبهم لا يقبلون منك أن تتبع رأياً فقهياً غير الذي أخذوه هم عن مشايخهم والذي اعتنقوه هم. ويعتبرون الآراء التي لا تنسجم مع اتجاهاتهم آراءً شاذة أو نتيجة تخلخل القيم الدينية وضعف همم المسلمين ولجوء الناس إلى أيسر الأمور، وكثيراً ما ينتقصون المشايخ الذين يختلفون معهم باعتبارهم أشاعره أو صوفية أو...
من هنا فإن القضاء على الداعشية ليس بالمنهجية الأمريكية التي تخطط لحشد تحالف ضد الإرهاب يتم فيه ضرب العراق وسوريا وكل بقعة تختارها أمريكا والغرب حسب مصالحهم. فقد جرب الغرب ومعهم العرب محاربة تنظيم القاعدة في كل بقعة يتفشى فيها، ولكن، التنظيم كان ينتصر عليهم في كل مرة باعتباره «فكرة» تغرس بذورها في التربة الملائمة لتنبت فرعاً جديداً في مختلف البلدان الإسلامية. والحل يكون بمحاربة الفكر الإقصائي والتفكير الأحادي، وتربية النشء على احترام الاختلاف وقبول الآخر كما هو وعلى احترام الخصوصية الثقافية. كما إن الحل يكمن في صياغة مفهوم واضح للهوية الحضارية للأمة العربية الإسلامية التي ليست لوناً واحداً ولا صبغة واحدة، بل هي نسيج متعدد ساهم في الإنجاز الحضاري الكبير لأمتنا.
وليبدأ كل واحد بنفسه، فبمقدار قبولك للآخر واحترامك له تحدد نسبة الداعشية في دمك، وبمقدار تأقلمك مع الأفكار المخالفة لك وتعايشك معها تكون نسبة الداعشية في دمك، فكم نسبة الداعشية في دمك؟