من عدل الله المطلق أنه ساوى في حقوق عباده وميزهم في الواجبات، بغض النظر عن عرقهم ولونهم ومعتقدهم ومؤمنهم وكافرهم، وبسط لهم الأرض وجعل لهم فيها معايش، ولم يعاقب شخصاً بذاته لنوع معتقده وفكره؛ بل ألزم الرسل بالتحاور مع أعتى الجبابرة والطغاة كالنمرود وفرعون، ولم ينزل عقابه بهم إلا بعد أن استيأست تلك الرسل وخلصوا نجياً، وأوشك معتقدهم الضال أن يورد الناس المهالك؛ كفرعون الذي أدعى الربوبية والألوهية، أو انحراف في الطباع السوية كقوم لوط بفعلهم الفاحشة وإصرارهم عليها. فترك الله للناس خيارهم في المعتقد والتعبد، وجعله مفتوحاً على مصراعيه، لكن الشيء الوحيد الذي حظره عليهم وحذرهم منه ووضع له أغلظ العقوبات ولم يجعل له كفارة إلا بالتحلل منه، هو الظلم، فقال في الحديث القدسي المعروف (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
لكن يأبى بعض العباد والزهاد من كل الأديان وتفرعاتها من المذاهب والطوائف والملل إلا أن يخالفوا النواميس الالهية، ويصروا على أن الحق معهم ومن خالفهم في فكره ومعتقده فهو كافر زنديق يستحق كل أنواع التنكيل والتشهير، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يستبيح دمه وماله وعرضه، والغريب أن ذلك يحدث في شريعة ودين الإسلام الذي شهد أعداؤه قبل أتباعه أنه دين رحمة وعدل وتسامح.
إن الله غني عن كل أنواع العبادات، فلا يزيد ذلك في ملكه شيئا ولن ينقص لو كان الجميع فجرة كفرة.
لنتعبد ولنمارس الطقوس والشعائر على أن لا تصادر حرية الآخرين، وأن لا يحدث ضرراً وتعطلاً في أي منحى من الحياة، أقول ذلك ونحن مقبلون على حادثة عظيمة في تاريخ البشرية والعالم الإسلامي، ألا وهي ذكرى معركة الطف واستشهاد سيدنا الحسين (ع) وآل بيته الأطهار، في جريمة مروعة هزت أركان المعمورة منذ وقوعها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كانت هذه الحادثة الأليمة لأجيال مناسبة لاستذكار الموقف الثوري البطولي والمآثر التي سطرها ذلك الإمام ابن سيد الأنام، وترسخت في مجتمعنا الإسلامي، وكل مذهب يستذكرها بمفهومه وتلتقي جميعها بالوقوف إجلالاً واحتراماً لأولئك الثوار الأبرار.
لكن ما لبث أن ركب بعض السياسيين والمتصيدين هذه الموجة وسخروها ووظفوها لمآربهم، فتراهم يتسابقون في نصب السرادقات والخيم والمضايف ويتقدمون الصفوف في اللطم وذرف الدموع، وفي ذات الوقت يعمدون لتأجيج وشحن الشارع بعبارات مضلة مقيتة ليس محبة بالمذهب وأهله وصاحب الذكرى، ولا تمت للحقيقة الناصعة بشيء؛ بل لشق صف الوحدة الإسلامية والتسلق على رقاب العامة الذين تذوب وتنخلع قلوبهم لذكراه.
شهدنا أولئك الساسة بالأمس من إحدى الفضائيات، ولا أظن أحداً يستطيع إنكار شنيع أفعالهم؛ يلطمون بيد والأخرى كذراع الأخطبوط امتدت وأفسدت كل مناحي الحياة وهي ملطخة بدماء الأبرياء وبصماتهم واضحة دون الحاجة للذهاب إلى الأدلة الجنائية في فسادهم الذي أزكم الأنوف، فقد أفرغوا خزائن بلدهم وأحالوه خراباً تنعق فيها الغربان .
أيرضى سيدنا الحسين (ع) أن الملايين من أتباع جده المصطفى صلى الله عليه وسلم يتضورون جوعاً وحسرة عليهم كسرة خبز وفتات متخم!
أم يرضى أن يبيت الملايين من النازحين والمشردين من أهل العراق والشام في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء! أم يرضى أن تبيع الحرة نفسها وتأكل من ثديها بعد أن خارت قواها من الجوع!
يا رب سبط رسول الله؛ نشكو إليك ظلم أولئك الطغاة، فأنت تعلمهم دون أن نذكرهم، الذين أذلوا عبادك بعد أن أكرمتهم، فهم مفجوعون في بلدهم وعيالهم ومصيرهم، وتتقاسمهم الفاقة والأمراض والسنون.
فالحذر الحذر ممن يتاجر بجراحات الأمة ثم ينسلخ عنها عند الشدائد والمحن