احتفلت الجالية المصرية في مملكة البحرين بذكرى انتصار أكتوبر 1973، وهو من أهم الانتصارات المصرية والعربية في النصف الثاني من القرن العشرين، إن لم نقل في القرن العشرين وحتى الآن، ولعل مرجع ذلك ثلاثة اعتبارات رئيسة:
الأول: إنه جاء بعد هزيمة ساحقة للقوات المصرية والسورية والأردنية في حرب 1967، وهي حرب وهزيمة جاءتا نتيجة ثلاثة أمور، أولها سياسة مصرية غير سليمة تجاه بناء القوة العسكرية التي سيطرت عليها الشللية، وثانيها عدم التنسيق المسبق بين القوات المصرية والسورية والأردنية؛ إذ جاء التنسيق متأخراً دون استعدادات حقيقية ودون بلورة استراتيجية سليمة ومتكاملة تقوم على الاحتمالات والسيناريوهات المختلفة، وثالثها سياسة غير سليمة تجاه العالم العربي بالتورط المصري في ثورة اليمن 1962، كرد فعل لعملية الانفصال السوري من الجمهورية العربية المتحدة، التي مثلت آنذاك أملاً للعرب والمصريين، ومن ثم فإن الانفصال جاء بمثابة ضربة قاسية للمشروعا ت والتفكير الوحدوي لبناء أمة عربية صاعدة وقوية، كما كان ضربة لقيادة زعيم قومي عربي عاش حياته حالماً بأمة عربية، وعاملاً من أجلها حتى وفاته، هو جمال عبدالناصر ابن مصر والعروبة البار، الذي ناضل من أجل تحرر العرب وأفريقيا من ربقة الاستعمار.
الثاني: إخفاق التوجه الثوري في مسعاه لبناء دولة قوية ونظام ديموقراطي، حقاً إن بعض الأحلام قد تحققت وخاصة العدالة الاجتماعية والقضاء على الإقطاع وعلي سيطرة رأس المال على الحكم، ولكن البعض الآخر ولم يتحقق خاصة بناء الديمقراطية السياسية والقوة العسكرية المتقدمة، وذلك لاعتبارات عديدة؛ منها الضغوط والمؤامرات الاستعمارية والحصار، إذ كانت الفترة التي عاشها عبدالناصر والمد القومي العربي تمثل صراعاً بين الاستعمار وحركات التحرر الوطني، وأيضاً صراعاً بين الكتلتين الشيوعية والراسمالية، فضلاً عن قصور التصورات الثورية العربية في نظرتها لبناء نظام جديد يحقق أمال الشعوب وتطلعاتها نحو الحفاظ على استقلالها المكتسب حديثاً وطموحاتها لبناء دولة وطنية، وفي نفس الوقت طموحاتها لبناء دولة قومية ذات طابع وحدوي يعكس هويتها العربية الشاملة.
الثالث: الصراع الإقليمي بين قوى ذات طابع ثوري تدعو للتغيير وقوي ذات طابع محافظ تدعو للتطوير التدريجي، ومن هنا حدث صراع بين الرؤى، وصراع بين المصالح، وصراع بين التطلعات، سواء على مستوي النخب الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية في كل دولة وبين الدول العربية بعضها البعض.
لكل هذا لم تتحقق طموحات جمال عبدالناصر ولا طموحات الأمة والشعوب العربية المتحررة حديثاً من الاستعمار الذي غير أسلوبه في العمل المباشر إلى العمل غير المباشر، مستفيداً من عدم قدرة الشعوب العربية والأفريقية على بناء إطار سياسي وفلسفي جديد يحقق طموحاتها ولا يتعارض أو يتصادم مباشرة مع القوي الاستعمارية أو القوي الإقليمية والدولية التي لها رؤى مختلفة، بل مناقضة، لرؤية حركات التحرر الوطني والقومي الناشئة، والتي عجزت في نهاية الأمر عن تحقيق طموحاتها وتردت في مهاوي الديكتاتورية والفساد في معظم تلك الدول النامية.
وفي غياب النموذج السياسي، ومن ثم الكوادر السياسية المسلحة بالفكر وبالممارسة الصحيحة، لجأت كثير من النظم السياسية إلى قاعدته الأصلية وهي القوات المسلحة، في إطار مفهوم أهل الثقة أجدر من مفهوم أهل الخبرة، لذا سيطر رجالها على معظم مؤسسات الدولة المدنية، وكنت آنذاك شاباً تخرج للتو من الجامعة وانضممت للعمل بوزارة الخارجية التي رتبت لنا زيارات لعدد من مصانع ومؤسسات الدولة، وهالني أن أجد رئيس مجلس إدارة المسجد الحسيني لواء من القوات المسلحة، وكذلك غالبية رؤساء الشركات والأحياء وغيرها.
من هنا تراجع الاستعداد العسكري كما تراجع الأداء المدني، فضلاً عن حدوث ضبابية في الرؤية الاستراتيجية لبناء الوطن وفي طبيعة الإنجازت لظهور طائفة لا بأس بها من المثقفين ومن الإداريين المدنيين والأكاديميين زينوا الأخطاء وجملوا الفشل بالإخفاء وبالغوا في تقديم المعلومات غير الصحيحة وغير الدقيقة، وزورا إرادة الشعوب، ولذا عرف النظام المصري والأنظمة الثورية العربية ظاهرة تزوير الانتخابات والإقصاء وإخفاء الحقائق، وكانت حصيلة ذلك كله انفصال بين القيادة والشعب وابتعادها عن الواقعية السياسية لمصلحة الأحلام الوردية والطموحات السياسية، وترتب علي ذلك الهزيمة الماحقة في 1967 والتي وقعت على الشعب وعلى النظام وقع الصاعقة.
أدرك جمال عبدالناصر الخطأ الذي وقع فيه نظامه، ولهذا اتجه بعد عام 1967 إلى الواقعية السياسية؛ فركز على مفهوم إزالة آثار العدوان أو بعبارة أدق تصحيح الهزيمة التي أطلق عليها الإعلامي الشهير فيلسوف المصطلحات المزورة بأنها نكسة، وهزيمة في معركة وليست هزيمة في الحرب، وكأن المعركة ليست حرباً، وهي في حقيقة كانت حرباً غادرة، وكان الاستعداد لها غير كاف والإعلام في أسوأ صوره بتصوير الهزائم الأولى في المعركة بأنها انتصارات، فعاش الشعب المصري والعربي أحلاماً وردية، ثم فاق بعد أيام قلائل وربما بعد ساعات قلائل على الهزيمة التي استمر المنافقون على تسميتها نكسة.
لذلك ثار شباب مصر الواعي والمتسم دائماً بالحيوية ضد الأحكام غير المتكافئة مع حجم الهزيمة التي صدرت بحق بعض القيادات العسكرية ممن تصوروا أنهم مسؤلون عن النكسة، وتم استيعاب هذا التحرك الشعبي بإصدار بيان 30 مارس 1968 لبناء دولة ديمقراطية صحيحة تعتمد الشفافية والواقعية.
ومن منطلق الواقعية السياسية قبل عبدالناصر قرار مجلس الأمن رقم 242، كما قبل بعد ذلك مبادرة وزير الخارجية الأمريكي المعروف باسم مشروع روجرز، لكن الحالمين العرب والمصريين والفلسطينيين ظلوا سادرين في الأوهام. وظل الأمر كذلك حتى جاءت حرب 1973 المشهورة باسم حرب أكتوبر المجيدة وحرب رمضان المبارك، فقد انطلقت المدافع المصرية في السادس من أكتوبر الموافق العاشر من رمضان، وكان ذلك إيذانا بتلاحم الرؤيتين الثورية والتطورية والدينية والعلمانية الليبرالية، أي الانتقال بالفكر المصري والفكر العربي إلى الواقعية السياسية منذ 1967 المرتبطة بالتراث وبالعصر الذي تعيش فيه الشعوب. لذلك تحقق نصر أكتوبر، وتم تسخير النفط العربي لمصلحة المعركة لأول مرة، وعندما اتضح التآمر والمساندة الدولية لإسرائيل وافقت القيادة المصرية على وقف إطلاق النار لإدراكها بتغيير موازين القوى وتجنباً لهزيمة جديدة، ومن ثم تم اللجوء للعمل السياسي وإدراكاً للحقائق الواقعية بأن القدرات المصرية والعربية لها حدود، وهي أقل من طموحات الشعوب، وأن السياسة الدولية مثل المحيط المظلم الواسع أو ما أسماه العرب القدامى «بحر الظلمات» يعجز الكثيرون عن إدراك كامل أبعادها.
فالتآمر؛ أو بصيغة أدق حجم المطامع والخطط الدولية الاستعمارية والإقليمية التابعة لها كبير، ومنه ما هو علني ومعظمه وأخطره ما هو سري، ولعل اتفاق سايكس بيكو 1916 الذي تم الاتفاق عليه بين البريطانيين والفرنسيين لتقسيم المشرق العربي خير دليل على ذلك، كما أن التفاهم والإعداد الثلاثي المتآمر لغزو مصر عام 1956 نموذج آخر، ومن ثم جاء الإداراك بأنه لا يمكن مقاومة السياسة التوسعية أو الاستعمارية بالشعارات، وإنما بالعمل الجاد وبالواقعية السياسية وبالبناء الاقتصادي وبالتوصل لتنازلات تحقق بعض المكاسب لأنها نتيجة تفاوض يعتمد أوراق القوة وليس أوراق الخريف الزابلة.
إن أوراق القوة تجمع بين ما أصبح يطلق عليه القوة الخشنة والقوة الناعمة، وإذا كانت القوة الخشنة العربية ضعيفة، فالقوة الناعمة ليست كذلك، أو على الأقل هي أقوى من القوة الخشنة المتاحة لها، فالتفاوض والدبلوماسية وحشد التأييد الدولي يمكن أن يحقق ما عجز عنه السلاح، وهو ما أكده أستاذ الاستراتيجية الألماني الدولي كلاووزفيتز في كتابه المشهور المعنون «عن الحرب» بقوله «إنه استمرار للحرب بوسائل أخرى». ولعله من المبادئ المعروفة في الحروب أن الحرب مهما طالت فلا بد من التفاوض لبناء السلام. وأن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وهذا هو لب الفلسفة الواقعية التي تحدث عنها فيلسوف السياسة الحديث هانز مورجانثو منذ أواخر العقد الخامس وإصداره كتابه المشهور «السياسة بين الأمم»، والتي تحدث من خلاله عن حصار الاتحاد السوفيتي بالتزامن مع فكر جورج كينان صاحب نظرية الاحتواء للاتحاد السوفيتي والخطر الشيوعي.
من هنا اتجهت السياسة المصرية لاحتواء الخطر الإسرائيلي لأنها أدركت عدم إمكانها القضاء الكامل عليه، وللأسف لم يدرك كثير من السياسيين العرب هذه المعاني، وظلوا سادرين في الأحلام أو الفكر المثالي، ومن ثم تراجعت القضية الفلسطينية واتجهت إسرائيل لالتهام فلسطين قطعة بعد أخرى، أو ما سمي سياسة القضم للأراضي الفلسطينية ببناء المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية، حتى وصلت إلي أكثر من 80% منها، وظلت الجولان السورية محتلة دون طلقة واحدة على مدى أربعين عاماً، والضفة الغربية متآكلة ومليئة بالمستوطنات، أما الهجرة اليهودية من الغرب والشرق على حد سواء فقد ساعدت في تقوية إسرائيل وتدعيمها للتغلب على نقاط ضعفها، وظلت الشعارات العربية المثالية ترتفع في الهواء الطلق، والإنجازات العربية الحقيقية تتراجع على أرض الواقع المعاش، ولا نقول تحولت إلى إنجازات معظمها وهمي.