لقد آلمني وأحرجني سؤال طفلتي الصغيرة، التي تكمل السابعة من عمرها، وهي تحدق بعينيها الحائرتين «بابا أنا سنية أم شيعية؟!»، علها تجد الجواب الشافي عند أبيها الذي طاش فكره ونزل عليه السؤال كالصاعقة، ولم يخطر بباله يوماً أن يحرج بهكذا سؤال من طفلة بريئة ليس لها ذنب سوى أنها خلقت في زمن يتلاعب بمقدراته المفسدون.
فحنوت عليها وحملتها بين أذرعي وقلت لها تعالي بنيتي نخرج في نزهة إلى مملكة الأطفال وأجلب لك ما تشتهين من الحلوى واللعب، لكن كل محاولاتي ذهبت أدراج الرياح مع نهاية النزهة، وأعادت علي السؤال بعد أن قرأت انفراجاً في أسارير وجه أبيها ثم ذيلته بالعديد من الأسئلة، فانطلق لسانها الرطب بأسئلة محرجة حقاً، والتي تسللت إلى مسامعها من خلال زميلاتها في المدرسة «هل سافر والدك للزيارة؟ أتحبين الحسين وفاطمة؟ ولماذا لم تلبسي الوشاح الأسود؟ وكيف تصلين هكذا أم هكذا؟ وحتى مقطوعات اللطم والتطبير الحزينة التي لفتت انتباه الطفلة من خلال سيارة الاشتراك وكثير من الاستفهامات التي يضيق المقام بسردها»، بدأت تلك الكلمات تلسعني وتؤنبني وتجعلني أعيد كل حساباتي وأراجع نفسي.
هل منهاج التربية الذي اعتدناه لعقود مضت في البيت والمدرسة بعدم فتح أذهان الأطفال على الفروقات والاختلافات المذهبية، والذي ورثناه عن آبائنا كان سلوكاً صحيحاً أم خاطئاً؟ لقد أدرك أجدادنا وآباؤنا -رحمهم الله- عظم الفتنة، وأداروا ظهورهم لها، وبحكمتهم وتآلفهم جعلونا نعيش أبهى أيامنا.
ربما كان ذلك صحيحاً ويتماشى مع ظرفه؛ فجيلنا بلغ العقد الثالث من عمره ولم يعلم ما الفرق بين المذاهب، وأكملنا دراستنا الجامعية وما تبعها من معترك الحياة في حلنا وترحالنا، ولم نميز بين زملائنا من هو الشيعي منهم ومن هو السني.
أما وقد تغيرت الظروف وتقدمت كثيراً أساليب التواصل بين الناس بفضل أحدث التقنيات التي استغلها المجرمون أبشع استغلال، فأصبح من المستحيل حجب المعلومة أو حجر المتلقي لها.
أصبح اليوم لزاماً على رب البيت، ولا أغفل دور الأم الهام، وبالتعاون مع إدارات المدارس ببث روح الألفة والتسامح، وتوضيح الحقائق وتحديث المناهج دون تعصب وغلو لتتلاءم مع ما تعيشه الأمة اليوم.
فلنبادر جميعاً لتحصين هذا الجيل وعدم تركهم فريسة ولقمة سائغة لمن يريد أن يجعل منهم أدوات هدم ويخطط لبذر الفرقة والتناحر ليلغي كل طرف منهم الآخر، مما يؤدي لإضعاف بل القضاء على الأوطان.
كما أصبح لزاماً على عاتق الدولة ووزاراتها، وأخص بالذكر وزارة التربية والتعليم، تجريم كل من يثبت تعاطيه لأفكار مسمومة ونهج التفرقة وبثها ونفثها في روع الأطفال على وجه الخصوص، وألا يقتصر ذلك بأوامر إدارية وتعليمات على الورق، بل بتشكيل لجان توعية ولجان مراقبة، فالأمر جد خطير.
وبالعودة من حيث بدأت؛ كان لزاماً علي أن أخرج هذه الملاك من حيرتها قلت لها.. أي بنيتي ديننا الإسلامي كبيتنا هذا يرعاه الأب ويعيش فيه الأبناء متحابين، فإن اختلفوا مع بعض هرعوا إلى أبيهم ليعيد الود بينهم، كذلك السنة والشيعة وباقي المذاهب هم إخوة لأب واحد وعاشوا هكذا لقرون، لكن للأسف دخل للبيت زائر ثقيل فرق بين الإخوة في غفلة من ذلك الأب.. كأبليس عند دخوله الجنة فوسوس لأبوينا فأخرجهما منها، ثم لم يكتف بذلك بل تبعهما إلى الأرض ووسوس لولدي آدم ليحمله على قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين، وما تسمعيه وتشاهديه فليس من الإسلام في شيء.
أومأت طفلتي برأسها الصغير، وربما أشفقت لحالي ولم تفهم أو تهضم بعض ما قصصته عليها، لكن بالتأكيد سيبقى تأثير جو الدراسة وثقافة المجتمع من حولها يرسم ويشغل حيزاً كبيراً من فكرها، وربما سلوكها، وكذلك من تعاشرهم من جيلها. فلننتبه لمن نرعى ولا تشغلنا وتأخذنا عنهم الدنيا ثم نندب بعدها حظنا ونعيب زماننا..