إنني على ثقة بأن المستقبل سيكون لشعب فلسطين على أرضه المباركة.. ولكن التفاؤل يجب أن يصاحبه عمل وتصاحبه رؤية حقيقية وواقعية
قضية فلسطين هي قضية العرب المحورية لعدة أسباب منها؛ طول معاناة الشعب الفلسطيني، ومنها نشأتها مع بروز القوة والفكرة العربية في العصر الحديث، أي منذ بداية القرن العشرين، ومنها أنها قضية رئيسة في الأطر التي تعمل في دوائرها السياسات العربية من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الانحياز والأمم المتحدة. كما إنها قضية ذات أبعاد تاريخية عربية؛ إذ أن فلسطين جغرافيا هي أرض كنعان، وهي قبيلة عربية أصيلة، وأخيراً وليس آخراً أن معارك العرب الحديثة مع الحركة الصهيونية وتوجهاتها التوسعية ارتبطت بفلسطين الأرض والشعب والدولة والقيادة والتضحيات.
كمواطن مصري ارتبطت حياته بهذه القضية، فعشت صعود الحركة الوطنية وتقلباتها عبر الأزمنة والدهور منذ انضمامي لوزارة الخارجية المصرية عام 1965م، وعملت في أول مهمة لي في الخارج في سفارة مصر بالأردن، فتوثقت علاقتي المهنية والفكرية، ثم تزوجت وأنجبت أثناء عملي بالأردن، فارتبطت؛ بل وامتزجت الدماء المصرية مع الدماء الفلسطينية، حيث أقرب أصدقاء كان من مناضلي فلسطين المغفور له جميل عارف بركات من مدينة الخليل، وأسرته العظيمة المؤمنة بوطنها فلسطين وبعروبتها، وفي مقدمتهم المغفور لها بإذن الله السيدة هانم المشهورة بأم خليل.
تعلمت من جميل بركات كثيراً عن تاريخ النضال الفلسطيني، وكان هو أوائل الشخصيات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها، بل وقبل نشأتها، حيث هاجر وعاش في الأردن. وزوجته أم خليل مصرية الهوى، مثل ياسر عرفات، بل أيضاً الدم والأخلاق الحميدة كانت السيدة نموذجاً للشجاعة والعمل، ربة بيت وصاحبة تجارة، وكما يقول المثل كانت لي نعم الجارة، فقد تبرعت لي بدمها عندما وضعت زوجتي بالأردن واحتاجت نقل دم وكثيراً.
من ذكرياتي في تلك الفترة المليئة بالحركة السياسية العربية الفلسطينية في الأردن حيث صعود وتراجع حركة النضال الفلسطيني نتيجة أخطاء استراتيجية لبعض القيادات ورفعها شعارات غير مطلوبة وغير منطقية مثل تحرير فلسطين يأتي عبر تحرير الدول العربية من النظم الرجعية، كذلك تعلمت كثيراً من صديق آخر من نابلس هو فتح الله دروزه رحمه الله وأذكر جلساتنا ومناقشاتنا الكثيرة عن السياسة والدين والعروبة والنضال الوطني، وأسرته الطيبة وخاصة السيدة الفاضلة زوجته النموذج المتجسد للمرأة العربية العاملة وسيدة البيت.
وكما هو معروف فإن قضية فلسطين هي الركيزة الأولى في العمل الدبلوماسي المصري؛ فهي قضية أمن مصر الوطني وأمن مصر القومي العربي، وتاريخ الإقليم متداخل عبر العصور، ولست في مجال ذكر أحداثه، ولهذا عشت وعاش الدبلوماسيون، بل والشعب المصري بأسره، ومازلنا نعيش حب فلسطين وشعبها، والشعور بالألم والمرارة لمعاناة هذا الشعب العظيم من بعض القيادات غير الواعية أو التي تغلب الشعارات الإيديولوجية على مصلحة شعب فلسطين، كما إن بعضها يغلب شعارات دينية على مصلحة الشعب والوطن، وهذا أحد أسباب كوارث الحركة الوطنية الفلسطينية.
أذكر أن أحد زملائي الدبلوماسيين أرسل لي رسالة عندما كنت بالسفارة في الأردن يوصي على شقيقته المتزوجة من فلسطيني والمقيمة بالأردن، وذهبت لبيت أسرة الزوج وتعرفت عليهم، وقالت لي الأم هذا ابني ينتمي لجبهة التحرير العربية وآخر للبعث العراقي والثالث للبعث السوري، ورابع للجبهة الشعبية وخامس للجبهة الديمقراطية وسادس لحزب التحرير الإسلامي. فتعجبت وتساءلت كيف تعيش تلك السيدة الوقورة في هذا الجو وما هي أسبابه؟ فقالت إنها تعمل على فض الاشتباك المستمر والمتكرر، وتدعوهم للتعايش فيما بينهم وإنها في أمم متحدة.
أما تفسيرها لهذا التنوع فهو طبيعة تطور ومعاناة الشعب الفلسطيني وهجرته لهذه الدولة أو تلك ووقوعه فريسة للدعايات والأفكار الإيديولوجية وللأجهزة الأمنية المعروفة في تلك الدول.
المهم كنت من بين المتحمسين لاتفاق أوسلو عندما كنت مندوب مصر الدائم في جامعة الدول العربية، وأعددت ملفاً خاصاً لوزير الخارجية المصري آنذاك عمرو موسى لاجتماع مجلس الجامعة الذي استمع لطرح الزعيم ياسر عرفات، وكان هدف مصر مساندة الرئيس عرفات رحمه الله، بغض النظر عن أن الاتفاق تم التوصل إليه دون علم مصر ودون تشاور معها، لأن مصر لا تسعى لتغليب وجهة نظرها، فأهل مكة أدرى بشعابها، كما يقول المثل العربي.
لقد كان الرئيس ياسر عرفات زعيماً عظيماً، كذلك قادة الجيل الأول من رفاقه، وكانت لي علاقات وثيقة معهم ثم تواترت التحديات والإرهاب الإسرائيلي وقتل كثير من هؤلاء القادة المؤمنين بوطنهم، وظل معظم أفراد الجيل الجديد يرددون الأطروحات الإيديولوجية، وزاد الأمر بلة أن منهم من غطت الغمامة السياسية للدول الأخرى وشعاراتها على عينيه وقلبه وأنسته العمل من اجل وطنه وقضيته، فأصبح ورقة في لعبة السياسة الإقليمية ثم ظهرت منظمات عملت إسرائيل على مساندتها لضرب حركة المقاومة بقيادة حركة فتح، وهكذا تعمق الخلاف الفلسطيني الداخلي وأصبح العداء بين الأطراف الفلسطينية أشد من خلافهم مع إسرائيل المحتلة لأراضيهم، وتحول البعض إلى دمى إيديولوجية في أيدي قوى إقليمية.
فلسطين هي قلب العروبة جغرافيا كما إن مصر قلبها سياسياً وثقافياً، وسوريا العريقة كان لها دورها في إحياء البعث لمفهوم العروبة منذ الثلاثينات والأربعينات، ولكن الذي يحمل هم فلسطين اليوم هم جميع العرب بلا استثناء مع اختلاف في الدرجة والتصورات، ورغم هذا كله فقد تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية عما كان عليه في أواخر القرن الماضي، ويحمد للرئيس أبو مازن أنه يحمل هموم شعبه على كتفيه وفي قلبه دائماً، لذلك فهو يشعل هذا الحماس الدولي من حين لآخر بطرح مبادرات وآراء غير معتادة، أو ما يسمى من خلال التفكير خارج الصندوق.
تلك فلسطين وشعبها وقياداتها في ذكرى مرور 26 عاماً على إعلان قيام دولتها، وأكرر ما ذكرته مراراً لأصدقاء أعزاء من فلسطين وكتبته.. أن فلسطين ليست كغيرها من الدول العربية، هي أرض الأنبياء المباركة، كما ارتبط بها النبي محمد منذ ليلة الإسراء والمعراج، ولهذا فان مشكلتها تحتاج لمخرج وحل غير تقليدي، ولقد طرحت الحركة الفلسطينية يوما ما قيام دولة فلسطينية واحدة تجمع اليهود والعرب في إطار واحد، ولكن القوى غير الواعية عارضت ذلك، وكان هذا أكبر خدمة لإسرائيل وعدوانيتها ورغبتها في التوسع. والآن ثمة أطروحات عديدة.
وإنني لعلى ثقة بأن المستقبل سيكون لشعب فلسطين على أرضه المباركة، ولكن التفاؤل يجب أن يصاحبه عملاً، وتصاحبه رؤية حقيقية وواقعية، وإلا أصبح التفاؤل حلم ليلة صيف سرعان ما يضيع، وأيضاً ينبغي أن تصحبه دبلوماسية نشطة، وعمل دؤوب وفكر سياسي واقتصادي واجتماعي ذو بعد استراتيجي قد نختلف كعرب حول كيفية الحل، وقد يختلف الفلسطينيون، ولكنني أعتقد أن شيئاً واحداً لا يجب أن نختلف عليه أنه ضرورة وحدة القيادة، ووحدة الاستراتيجية الفلسطينية ذاتها لضمان الحفاظ على الشعب والأراضي والدولة.
تحية لفلسطين شعبا وقيادة ودولة في طور التكوين الحقيقي عبر بناء آليات الدولة، كما فعلت دول أخرى تحت الاحتلال، وتحية لسفير فلسطين الأخ طه عبدالقادر على تفانيه من أجل قضية بلاده فهو دائب النشاط.