أحياناً كثيرة من شدة السخافات التي من الممكن أن نواجهها في حياتنا اليومية والتي من المحتمل أن تكون أحد أسباب استنفاذ طاقاتنا الإيجابية، لذلك تكون النتيجة بأخذ قرار خارج عن إرادتنا الذهنية، ولكن ينسجم مع قناعتنا الفكرية، وهو أن نتجاهل ما يدور حولنا باستخدام أسلوب غض النظر وبناء جدار الصمت واعتماد مبدأ عدم كثرة البحث والتفكير.
ولكن أحياناً يكون المشهد أقوى من قدرة التحمل التي نعد بها أنفسنا، لنجد أن جدار الصمت تفتت من هول المنظر الذي من الممكن أن تشاهده على شاشة تلفازك الملون الصغير في ليلة إجازة باردة المناخ وزخات المطر التي ننتظرها بفارغ الصبر كل عام تغمر الشوارع وتعرقل الرؤيا في الطرقات، فيكون المكوث بمنزلك وعلى أريكتك هو الحل المثيل في هذا الجو البديع.
وأنا أقلب محطات التلفاز بجهاز التحكم عن بعد، وإذ بي أجد نفسي متسمرة على الأريكة أحاول جاهدة أن أفهم دموع هذا الشاب المرتب الأنيق والذي بالكاد يملك القوة التي تجعله واقفاً على رجليه والدموع الرقيقة تغسل وجهه بخجل. اعتقدت للوهلة الأولى أنني أشاهد مسلسلاً أو فيلماً درامياً لذلك أعدت نظري على اسم المحطة للتأكد أن ما أشاهده حقيقة وهو برنامج الهواة الذي يتم بثه كل أسبوع، وما زاد الأمر علي صعوبة عندما ركزت عدسة الكاميرا على لجنة التحكيم والتي كانت إحدى عضواتها تحاول جاهدة أن تخفي دموعها اللؤلؤية بأطراف أناملها السحرية، لتفضحها انسياب كحلتها بلونها الأسود الملوكي تسيل بدون استئذان على وجنتيها المخمليتين، متلعثمة لا تدري ماذا تقول ومن أين تستجمع مفرداتها لكي تواسي الشاب الواقف أمامها.
فسلمت جدلاً ومن دون كثرة تكهنات، أن هذا الشاب قد أصاب أحد أهله مكروه وهو يقدم فقرته الغنائية على المسرح، أو أن مصيبة أو كارثة قد حلت بعزيز لديه أو بداره أو مدينته، إلى أن تحولت لحظات الترقب إلى حقيقة مطلقة عندما نطقت هذه السيدة بعد لحظات تأمل رهيب: « إنه خسر في جولته وإن سياسة البرنامج ذات القلب القاسي تفرض عليه الانسحاب، وهي تقدم له وعداً صريحاً أنه مهما تم وجرى لم ولن تنسى الأوقات الجميلة التي أمضوها معاً جميعاً خلال فترة تواجده في البرنامج».
فخر الشاب صعقاً من هول ما سمعه، وخرت دموعي أسفاً على حال شبابنا العربي الذي يجد مستقبله في مطلع أغنية ويرى مصير جيله برقصة أو هزة خصر.
فأنا مؤمنة أن الفن والموسيقى هو اللغة العالمية المفهومة والتي لا تحتاج إلى مترجم وكل الشعوب تجمع على وحدتها، لكن لا ولن أقبل بأن يصبح الغناء وكثرة الأهازيج هو المصدر الوحيد لقوت شبابنا وينسون الثمر الحقيقي لنهضة الأجيال وهو العلم ثم العلم ثم العلم، والذي لا يرتوى إلا بالعلم. فبالعلم الحقيقي وليست بالشهادات المزيفة تبنى الأوطان على أيدي أجيال واثقة من خطواتها حقيقة، فشدة هول ما شاهدته كان كفيلاً بأن يكسر جدار الصمت الذي عهدت لنفسي أن أنشأه وكلي أمل أن يستيقظ الشباب من سبات الجهل الدفين.
وصدق الإمام علي رضي الله وأرضاه عندما قال: «المصيبة واحدة وإن جزعت صارت اثنتين والجاهل الذي لا يرتدع بالمواعظ لا ينتفع».