يتبادر لذهن القارئ الكريم للوهلة الأولى أن هنالك غزواً فضائياً قريباً يُعد له بسرية تامة من إحدى الدول الكبرى المسيطرة على عالم الفضاء وبحوثه، ربما تسرب لمسامع بعضنا هذا المصطلح دون اهتمام، وربما ذهب فكر الآخر لاحتمال أن الدولة الكبرى قد تعاطفت معنا وأشركت أحد جنودنا في بادرة حسن نية للتطوير من أداء مؤسساتنا العسكرية التي أثقلت بجراح الحروب الداخلية، فبعض جيوشنا العربية أصبحت لا تحسن إلا قتال شعوبها.
لكني أصبت بخيبة أمل كبيرة وأنا أشاهد وأسمع تصريحاً خطيراً يدلي به رئيس وزراء العراق، حيدر العبادي، قبل أيام وهو يفسر لنا ويوضح من هم الجنود الفضائيون؛ حيث تبين أنهم جنود وهميون، أي أسماء على ورق، وأعلن أنه تم الكشف عن خلية فساد داخل منظومة وزارة الدفاع العراقية نظمت قوائم بأسماء ورتب لخمسين ألف عسكري، وربما العدد هو أكبر من ذلك بكثير، لكنه قلل منه حتى لا يصدم المواطن العراقي الذي كثرت في جسده الجروح والكدمات وعصفت بكيانه الفوضى والأزمات.
وأوضح العبادي أنه يتم تقاضي رواتبهم ومخصصاتهم وربما أسلحتهم وتجهيزاتهم مجموعة ضالة ربما من ضباط الوزارة وقادة وسياسيون ومفسدون، ولم يصرح سعادته هل كانت تجري تلك السرقة لعام منصرم أم للسنين الثمان العجاف.
ذلك بعض من الإرث الثقيل الذي ورثه عن سلفه ورفيق دربه ونضاله ومؤسس دولة ما يسمى بالقانون، الذي هوى بالعراق من عليين إلى أسفل سافلين، المالكي وأعضاء حزبه الفاسدين الذين لبسوا زوراً عباءة الورع والدين.
ولو جمعنا وضربنا بعمليات حسابية بسيطة لأدهشنا حجم الفساد في جزئية بسيطة أعلن عنها العبادي بوجل. فلو افترضنا أن قيمة ما يكلفه الجندي العراقي من راتب ومخصصات خطورة وتجهيزات وأرزاق ورعاية صحية وتسليح هو بحدود 2000 دولار شهرياً، فإن مجموع ما يسرق من ميزانية وزارة الدفاع هو بحدود مليار ومائتي مليون دولار سنوياً!
هذا هو حجم ملف فساد واحد في وزارة أمنية تم كشفه ومن أعلى مسؤول في الدولة العراقية، وبالتأكيد هنالك مثل هذا الرقم أو يزيد في رديفتها وزارة الداخلية وأفراد الحميات وحماية المنشآت والقائمة تطول.
ولم يكن ليكشف عنها لو أن ذلك السلف وطاقمه أبقى مواراة وخجلاً عدة مليارات في الخزينة الخالية من أصل العشرات، حيث أفرغت على عجالة قبل الرحيل، ومازاد الطين بلة هو هبوط أسعار النفط، فلم يعد بمقدور تلك الحكومة الفتية تحمل ضربتين موجعتين؛ أحدهما من داخل أركان النظام، والصفعة الأخرى انهيار أسعار النفط عالمياً إلى أدنى مستوى له منذ سنين، مما دفع برئيس الحكومة مضطراً لفتح ملف فساد بسيط لتعرية خصمه بعد أن عجز منذ شهور من مسك العصى من وسطها، وربما سنشهد تباعاً الكشف عن المزيد من ملفات في الفساد والإجرام أخطر مما كشف الستار عنه في وزارات وهيئات وصفقات مشبوهة وعمولات.
بسبب تلك الطغمة الفاسدة التي اتخذت من الدين غطاءً سميكاً ارتكبت وراءه كل الموبقات والمحرمات، وتركت شعباً يعيش العوز والجوع والحرمان، بل بخبث أشغلته بتطاحن طائفي لم يعد بعدها من أولوياته ملاحقة المفسدين ومختار الزمان.
لم يبتلَ بلد الحضارات والرافدين على مر تاريخه القديم والحديث بمثلهم، ربما ابتلى بحقبة بالمفسدين وأخرى بقتلة مجرمين، لكن أن تجتمع كل صفات السوء وقبح الشياطين فقد فتشت في كتب الوارقين وتوقفت كثيراً عند قصص المؤرخين فلم أعثر يوماً من هو ألعن وأخس منهم منذ قرون وسنين.
نعم أنه ليل ثقيل كالح السواد يعيشه العراق وعموم العرب والمسلمين، وهو الذي يستحق أن تنصب له خيم العزاء وتجدد ذكراه في كل عام وحين، وإن أحيا البعض الحزن فلا ضير وحتى إن أحدثوا بدعة في الأربعين.