لا يمكن للإنسان أن يستدعي الماضي إلا إذا كان حاضره ضعيفاً، ولا يمكن للإنسان حين يكون قوياً أن يستدعي ويتغنى ببطولة الآباء والأجداد، إنها فلسفة الكمال والنقص، وهي حركة الحفاظ على صيرورة الإنسان من الانسحاق تحت عجلات الحاضر، فيظل يهرول ويجري ويسبح نحو الماضي السحيق، عله يتنفس من خلاله لأنه لا يستطيع العيش في هذا العصر، وربما لا يمكن القبض على أدواته، فلا خيار أمامه حينئذ سوى التغني بالأمجاد والأوائل والأبطال من أجداده، حتى لو أثبتت كل كتب التاريخ زيف هذه المعطيات التي تنفخ الماضي وتزين جرائمه وإخفاقاته.
كلما زاد حديثنا عن الماضي ونورانيته وقدسيته وطهرانيته وقوته، سواء كانت كل النعوتات الحسنة صادقة أم كاذبة، فهذا يعني أننا نعيش بؤس الحاضر، فيضطرنا واقعنا المشحون بالمآسي والتخلف إلى الرجوع جهة التاريخ، لعلنا نجد بصيص أمل في أن نكون رقماً ولو واهياً بين أرقام عظيمة سطرتها الأمم الحاضرة بفضل قوتها واحترامها لقانون الحضارة وأسباب النهوض.
كل هذا السلوك الذي ينطق بالضعف والعجز عن مجاراتنا الدخول إلى العصر الحديث، يقابله أمر خطير للغاية، وهو ما يقوم به الكثير من علماء الدين من كافة المذاهب الإسلامية، في استدعاء التاريخ عبر القصص والقضايا الحساسة التي يمكن لها أن تعيدنا إلى التاريخ الدموي بكل تفاصيله المؤلمة والبشعة، فيحدث هذا الأمر نزاعات شرسة بين أتباع المذاهب الإسلامية لا يمكن أن نصفها إلا بالمصائب الكبرى والجهالة العظمى.
نحن نؤمن أن في كل فرد مسلم منا يعيش بين جنباته كائن طائفي صامت، هذا الكائن يظل نائما في داخل الإنسان، وذلك في حال ظل الإنسان المسلم مهتم بالحاضر ومشغول ببناء الواقع، أما إذا أفلس هذا المسلم من الانشغال المبارك في صناعة حاضره ومستقبله، وفي ذات الوقت حين يجد من يعيده للتاريخ بكل أوجاعه وخلافاته والآمه، فيثير في عقله الباطن وفي ضميره الخامل استدعاء واستعداء كل المعارك والخلافات والفتن التاريخية بين الذين رحلوا بطريقة غير موضوعية وغير علمية، فإن المسلم حينها سيكون قنبلة فتاكة تفوق في خطورتها كل القنابل النووية والجرثومية.
حين يفلس علماء الدين في إقناع الناس ببناء الحاضر بقوة المنطق وأسباب البقاء، وحين يفلسون في تقديم نموذج حضاري عالمي يحتذى به بين الأمم، فإنهم في نهاية المطاف سيكونون مضطرين لمناقشة التاريخ كملاذ وحيد، ومحاكمة أفراده بطريقة لا تعود علينا بالفائدة التي تضيف لنا شيئاً في زمن «الإفلاس» أصلاً.
يكفينا هذا الوعي لو التزمنا فقط بالآية الكريمة التي تقول بكل وضوح وشفافية (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)، ففي هذه الآية الشريفة فصل الخطاب وجدلية الحق والباطل، لكنه التحريض الصريح ضد العلم والدين والواقع والحضارة، تحريض يمارسه الكثير من العلماء والخطباء والكتاب والوعاظ في المساجد وعبر الدروس وفوق المنابر وفي بطون الكتب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال الفضائيات الطائفية، التي تمولها المخابرات الصهيونية، فوق رؤوس قطيع كبير من المسلمين الذين لا يجيدون بناء الواقع وفق نظريات الأخذ بأسباب القوة والتقدم، فيجبرونهم تحت جبروت التاريخ المزيف أن يتصارعوا فيما بينهم، ليخوضوا معارك ليس لهم فيها ناقة أو جمل، فهل هنالك من تخلف أشرس من هذا التخلف؟ وهل يوجد عاقل يؤمن بمناقشة التاريخ وإحياء خلافاته قبل بناء الزمن الذي يعيش فيه؟ لكنها الفتنة التي باتت تطرق أبوابنا قبل أن تستيقظ عقولنا، فتنة يديرها رجال دين حمقى، ويصدقها أقوام آخرون، أشد منهم حماقة وسفاهة، أما علماء الدين المعتدلون فإن صوتهم في زمن النعيق لم يعد مسموعاً.