المكابرة التي تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من الإقرار بفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد ستكبدها مزيداً من الخسائر الدولية، وستجد نفسها تفقد مكانتها ومصالحها في المنطقة الواحدة تلو الأخرى، والأخطر أن يترك رسم السياسة الخارجية التي تحدد كيفية الحفاظ على هذه المصالح لموظفين يأخذون الأمور بمنحى شخصي ويعتبرون الإقرار بفشل المشروع فشلاً شخصياً لهم، فتجر خسائرهم الشخصية خسائر على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وعلى استعداد لأن تخسر دولهم على أن يقروا بخسائرهم.
يذكرني هذا الوضع بمذكرة أرسلها المعتمد البريطاني «نوكس» لحكومته في برقية تحمل رقم 421 في 1923 ذكر فيها حجم العبث الذي قام به زميله السابق «ديلي» في الشأن البحريني، فكتب نوكس في البرقية «لا أعتقد أن الحقائق كلها عرضت على حكومة صاحب الجلالة، وإنني متأكد من أن وجهة نظر السنة من أهل البلاد لم تؤخذ بعين الاعتبار، و لم يتم عرضها بصورة وافية على حكومته .. الخ». ما أشبه اليوم بالبارحة، بعض موظفي الخارجية الأمريكية اليوم، يرفضون التعاطي مع المتغيرات التي تجري على الأرض، يرفضون ويكابرون بالإقرار بالفشل ويرفضون التعامل مع الواقع، وبدأ المنحى الشخصي هو الغالب على قراراتهم، ثم تكون الطامة الكبرى أن لهم الأمر لتقدير الموقف لتتكبد دولهم خسائر تلو الأخرى، فإن كانت هذه أحد أسباب غياب الشمس عن الأمبراطوية البريطانية التي قيل عن شمسها أنها لا تغيب، فهل تكون هي ذات الأسباب التي ستحدد مصير الشمس الأمريكية؟
إذ يبدو أن هذه الإدارة فقدت بوصلتها تماماً لا في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم أجمع، وصلت إلى أن الدول الأوروبية (حليفتها) بدأت تعطيها دروساً في مفهوم الاحترام والثقة في العلاقات الدبلوماسية. فلم يأت القرار البحريني بطرد مساعد وزير الخارجية خارج السياق.
فمصر لقنتها ذات الدرس قبل شهور والمملكة العربية السعودية كذلك، صحيح أن الأمريكي الذي طرد من البحرين كان الأكبر منصباً لكن يبدو أن طرد المسؤولين الأمريكيين أصبح أمراً عادياً هذه الأيام وسيستمر، ما لم تفتح هذه الإدارة عينها جيداً وتعيد قراءة الموقف الدولي من جديد وبناء على معلومات مستقاة من الأرض وليس من على الورق أو داخل دوائرها المغلقة، فإن كنا نعطي العذر للبريطانيين لصعوبة المواصلات والاتصالات حينها، فما عذر الأمريكان الآن؟
وإن شاءت أن تكتفي هذه الإدارة بأوراق الموظفين، فلتقرأ على الأقل مذكرات العديد من مسؤوليها المتقاعدين الضالعين في تنفيذ المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الجديد والذين أقروا مؤخراً أنهم اتخذوا قراراتهم في المنطقة بناء على معلومات مغلوطة!! تماماً مثلما حذر نوكس حكومة صاحب الجلالة نتمنى أن نجد موظفاً أمريكياً رفيع المستوى ينبه هذه الإدارة إلى أنها بنت مشروعها بناءً على معلومات مغلوطة فلا تتذمر من خسائرها الآن.
ليس مهماً أن تلقي هذه الإدارة باللائمة على الإدارة التي سبقتها وتبرر هذه الخسائر بأنها لا تزيد عن جني ما زرعته الإدارة السابقة، كرة التلاوم لا تنفع الآن، ما ينفعها هو لملمت خسائرها وإعادة ترتيب أوراقها من جديد ومراجعة قاعدة بياناتها. فهناك مصالح أمريكية، حقيقة مهددة بشكل فعلي في العالم العربي والإسلامي، و لطالما كانت تلك المصالح مهددة و لم يبقها ويحمها إلا الأنظمة، فما بالك اليوم حين تثور الأنظمة مع شعوبها ضد هذه المصالح؟!!
ما بالك والسوق حرة مفتوحة والبدائل تفتح أذرعها مرحبة؟ ما بالك وأخطاء الإدارة الأمريكية الحالية أصبحت أكثر من أن تحصى حتى أصبح الكل يلقنها دروساً في معنى ومفهوم الاحترام والثقة! فإن أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تبقي شمسها في المنطقة عليها أن تنقذ ما تبقى من نورها.