كان متفوقاً في دراسته، وكانت ملامح الذكاء وسرعة البديهة واضحة جداً على ملامحه المرهقة من فرط العمل، والتي كان يسعى لإخفائها بالتأنق المفرط. كنت أسمع كلمات الإطراء تأتيه من كل حدب وصوب. وكان الكل بما فيهم أنا نتوقع له مستقبلاً مهنياً باهراً؛ لم لا؟ وهو المبادر، المتفاني في عمله، المبدع المثقف الذي يحاول دائماً التزود بجديد العلوم وأحدثها ليكسب إعجاب الجميع، كما أنه كان دبلوماسياً في تعامله مع الجميع وكما نقول بلهجتنا الدارجة (يعطي الكل على قد عقله).
لم تخب نظرة الجميع فيه وبدأ هذا الشخص يتبوأ المنصب تلو الآخر، وعلى الرغم من صغر سنه إلا أنه استطاع في وقت قياسي أن يوجد لنفسه مكاناً في صفوف المتنفذين. حيث إنه لم يصعد السلم درجة درجة، بل استطاع أن يطير ويهبط حيث يشاء. والغريب في الأمر أنه لم يكن يُنظر إلى صغره وحداثة سنه بطريقة سلبية، بل كان المسؤولون يصفونه «بالداينمو» متباهين بأنه من الدماء الجديدة التي استحقت أن تحظى بالثقة.
لم يكن ينشغل بما يقال عنه وما يحاك له من قصص للانتقاص منه، لأنه كان يؤمن بأن الإنسان الناجح هو من يثير الجدل وهو من يسعى الناس دائماً لنسج الشائعات حوله، كما وأنه من شدة ذكائه لم يترك الباب مفتوحاً أمام الحاسدين لإثارة أي شائعة من شأنها أن تعطل من مسيرته المهنية المكوكية، فقد درأ أي باب للشك فيه، فقد كان يظهر التزامه الأخلاقي في كل محفل ناهيكم عن معرفته الموسوعية بمختلف المجالات، وحتى الحاسدين لم يكن أمامهم مجال أمام خلق شائعات كثيرة عنه.. حتى استسلمواوأصبحوا يصفوه تارة بالمتسلق وتارة بالمحظوظ.
كان أقرب إلى المثالية في كل شيء، حيث إنه لم يكن فارغاً مثل بعض الأشخاص الذين نراهم يصعدون عالياً مثل فقاعات الصابون التي سرعان ما تنفجر في الهواء ويذهب بريقها.
كان يخطط لكل شيء، ويضع جل جهده من أجل إنجاز هذه الخطط، وقد نجح فعلاً حتى وصل إلى منصب «مستشار».
في السابق كان على الشخص أن يفني جل حياته في تخصص معين حتى يحظى بلقب مستشار، كان للمستشارين آنذاك صفات معينة فيجب أن يكون المستشار أصلع الرأس أو على أقل تقدير أن يكون الشيب قد غزا شعره وحفرت التجاعيد مكانها في وجهه الذي ذبل من شدة العمل والسهر، وأن تكون نظارته الطبية سميكة لتعكس عدد الكتب والمراجع التي قرأها. أما الآن ومع الطفرة المعرفية فإن خصائص المستشارين قد تغيرت، فأصبح المستشار هو من يملك الرأي السديد لإنجاز عمل ما في تخصص ما، وأن يستطيع أن يدلو بدلوه في موضوع متخصص ويحدث فيه تغيراً إيجابياً.
وهناك أنواع من المستشارين في مجتمعاتنا العربية؛ فمثلاً يوجد المستشار «الفلتة»، وهو المستشار الذي يفقه في جميع ا?مور دون استثناء يتحدث في الإحصاء والعلوم وآخر أنظمة التكنولوجيا، ويعرف في نظريات الاتصال الحديثة منها والقديمة، كما أنه بارع في القانون والمحاسبة بقدر كفاءته في العلوم الإدارية. هذا المستشار «الفلتة» يدعي بأنه يعرف كل شيء دون استثنــــاء، ولا يؤمــن بالتخصصيــــة أبداً، قد يظن بعضهم أن هذا النوع انقرض، ولكني أطمئنكم هذا نوع مازال موجوداً.. ومازلت أعرف نفراً منهم.
أما النوع الثاني فهو المستشار «الصديق»؛ يتم تعيينه من قبل المسؤول لأنه صديقه ويثق في رأيه أياً كان هذا الرأي، يسأله عن رأيه في سير العمل وفي القرارات الإدارية التي يتخذها وبالطبع فإن الصديق سيمتدح فعل صديقه. ونستطيع أن نطلق على هذا النوع من المستشارين المستشار «العزوة» حيث إنك تراه متواجداً مع المسؤول في معظم الأوقات وفي جميع السفرات الرسمية، وهو ببساطة الصاحب الذي يرتدي قبعة المستشار ليرافق صاحبه في كل مكان ويحصل على منصب وراتب مغرٍ.
أما المستشار من النوع الثالث فهو المستشار «المتقاعد»؛ وهو أحد الأشخاص الذين «يمونون» على المسؤول والذي يريد أن يخدمه، فيقوم بإحالته للتقاعد من أجل الاستفادة من المزايا التقاعدية ويعيد توظيفه بعقد وبرتبة مستشار ليضمن حصوله على راتب التقاعد بالإضافة إلى راتبه كمستشار ليزيد من دخله. ولهذا ترى في بعض المؤسسات وظيفة مدير الشؤون القانونية ونائب الرئيس لشؤون للشؤون القانونية ومستشار الشؤون القانونية مثلاً، كلهم يؤدون ذات المهام الوظيفية باختلاف التراتبية والرواتب.
وهناك نوع رابع من المستشارين المتخصصين؛ وهم الذين يقومون بالدور المنوط بهم، حيث إنهم يقومون برسم الخطط ووضع الاستراتيجيات على أكمل وجه في المجال تخصصهم فقط. غالباً ما يكون هؤلاء المستشارون مستترين يعملون في صمت، لا لسبب سوى أن المسؤول هو من سينسب هذه الأفكار والاستراتيجيات له لكي يظهر بأنه المسؤول الخبير العليم.
سأرجع لمحور حديثي عن المستشار الذي تحدثت عنه في بداية مقالي، والذي التقيت به منذ فترة بسيطة ورجعنا بذكرياتنا إلى أيام الدراسة، وقد ذكرته بتنبؤ الجميع له بمستقبل مهني باهر، وقلت له ممازحة إياه.. ما هو السر خلف تنصيبك مستشاراً؟ وكيف استطعت أن تحصل على هذه الثقة الكبيرة؟ وكيف لك أن تبدي مشورتك لكبار الشخصيات؟
فأجابني بأن الموضوع أسهل مما تتخيلين، فقط رددي «إلي تشوفونه طال عمرك» كرد لأي مشورة تطلب، ونفذي ما تم طلبه منك دون أي إضافة تذكر.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}