شباب المحافظة الشمالية خاصة من القرى الواقعة فيها من ذكور وإناث يقضي الواحد منهم عمره إلى أن يصل إلى 18 عاماً في مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية داخل قريته، معظم هيكله التعليمي من أبناء قريته أو من القرى المجاورة وهكذا الأمر في سترة وفي العكر ونويدرات، أكثر من ثماني ساعات في اليوم ولمدة 12 عاماً ينمو ويكبر هذا الشاب وتلك الفتاة في هذا المحيط وهذه الدائرة المنغلقة المحافظة، ليس هذا عيباً فيها ولا قدحاً إنما وصف تقريري لحالة اجتماعية ونفسية.
الدولة بغياب التخطيط أغفلت تبعات مثل هذا الانغلاق على جيل بأكمله وعلى عشرات الآلاف من المواطنين، أي أننا نتحدث عن نتاج أكثر من عشرين عاماً من «اللا تخطيط الاجتماعي» وقد كان ذلك مجرد مثال صغير وبسيط يلقي الضوء على السياسة التعليمية والسياسة التعميرية حين تمضي بعشوائية دون هدف واضح ودون رؤية متفق عليها عند الجهتين، انظروا إلى انعكاس هذه العشوائية على بناء نسيج وطني متجانس بين طوائف وأعراق متباينة ومختلفة في الدولة.
لم نجلس نتدارس ما هو أثر هذا الانغلاق على الوحدة الوطنية، ما أثر هذا التقسيم على الخطط التنموية، لقد وضعنا رؤية اقتصادية 2030 ولم نقف عند مخرجات تعليمية لم تخرج من محيطها إلا لقضاء حوائجها ثم تعود مسرعة إلى طوقها، ولمدة 18 عاماً كبر هذا الجيل لم يختلط ويرى فيها الآخر إلا عن بعد، لم يقعد معه على مقعد دراسي، لم يشاركه ذكريات طفولته لم يلعب ويتخاصم ويتصالح ويضحك مع الآخر إلا بعد 18 عاماً يكون قد كون فيها مخزونه العقلي عن نفسه وعن الآخر، كيف سيندمج هذا في فريق عمل في قطاع خاص أو عام؟
انظر لزاوية أخرى من النمو العشوائي للدولة، وهي زاوية المساجد والمآتم وفيها ترك الأمر للجماعات الدينية أن تأخذ زمام المبادرة في تلك المنشآت، وفي غفلة من الدولة وغياب تام لرؤية استراتيجية لمهام ووظيفة هذه الدور العبادية وطني، لم تعد المساجد للصلاة وتغلق إلى حين آذانها التالي، لقد بنيت لها قاعات وصفوف وعليها قائم وإمام «يحكم» فيها، ولها لجان نسائية ودعاة، يجبى فيها المال ويجند فيها الشباب وتستضيف الدعاة من كل حدب وصوب كل منها في معزل عن الآخر وكل له دولته ومرجعيته، لا بأس لسنا ضد أن يكون للمسجد أو دار العبادة دور اجتماعي، إنما هل هذا الدور ضمن الرؤية الوطنية؟ هل يدور ضمن فلك الدولة؟ ليس هذا تمجيداً ولا مدحاً في الدولة إنما على الأقل، هل اتجاهه لا يعاكس اتجاه الدولة؟ بعد أن اكتشفنا أن دواعشنا وحوالشنا هم مخرجات بعض هذه المساجد اضطررنا أن نخرج مقاتلاتنا الحربية من مستودعاتها ونطير بها لقصفهم، ألم يكن من الأجدى لو أننا ما أغفلنا ولا تركنا المساجد لتكون حكومة ودولة داخل الدولة وأبقيناها لله وحده كما كان يجب أن تكون؟ أليست هذه مهام للدولة؟ غفلت عنها وتركت تلك المنشآت ولا أقول المساجد بل منشآت فالمساجد لله وحده، تركتها لتدار منها أمور السياسة وتنطلق منها دعوات الجهاد بشقيه السني والشيعي، من قاد الإرهاب على البحرين غير قائمين عليها؟ بعد أن تركت الدولة تلك المنشآت لتكون كعكة يتنافس على اقتطاع الجزء الأكبر منها جماعات وأحزاب وقصر دور الأوقاف على بنائها وصيانتها وترميمها حتى قرار تخفيض سماعاتها عجزت الأوقاف أن تفرضه عليها، الآن نريد منها أن تطهر بيوت الله للعاكفين والركع السجود ومن أرادها لغير ذلك فليخرج منها؟ بعد ماذا؟ قوانين وقرارات تنظيم جمع المال أو مراقبة الخطب أيام الانتخابات فحسب مجرد إجراءات تقريعية ما لم تكن ضمن استراتيجية شامله فلن تعالج فتقاً زاد بلاؤه على الراقع.
دولة تغفل عن ضم سياسة التوزيع السكاني مع السياسة التعليمية وتعجز عن ضم السياسة الاجتماعية للشؤون والأوقاف مع الشؤون الأمنية لابد أن تدفع ثمن هذه العشوائية اضطرابات وعدم استقرار يهدم كل ما بنته لتنمية اقتصادها وتنويعه.