في زمن الحرب الباردة، بين أوائل الخمسينات وأواخر الثمانينات، كان الانقسام بسيطاً والموقف سهلاً. فالانشطار «ثنائي»، والثنائيات منذ أساطير التاريخ القديم خير وشر، أو ظلمة ونور. لقد كان هناك الشرق السوفيتي في مقابل الغرب الأطلسي. وكان هيناً بالتالي أن ينسحب الموقف من نزاع يدور في مكان ما على المواقف والنزاعات في سائر الأمكنة.
أمران أخضعا هذه البساطة لقليل من التعقيد: الخلاف الروسي - الصيني بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في 1956، والتمرد الديغولي على الولايات المتحدة في الستينات. أما الاعتراض البريطاني - الفرنسي على زعامة واشنطن بسبب «أزمة السويس»، أو «العدوان الثلاثي»، فلم يعمر، واستحال مجرد عتب أعقبه، باستثناء الاحتجاج الديغولي، إقرار بقيادة واشنطن. وأيضاً فـ «الحياد الإيجابي» و«عدم الانحياز» لنهرو وتيتو وسوكارنو وعبدالناصر، لم ينجحا في تخريب الاستقطاب الأساسي الذي يشق المعمورة.
هكذا، بقيت الصورة «الثنائية» تتصدر العالم، أما الحالات الموضعية المبعثرة التي غايرت ذلك، وأهمها فيتنام وكمبوديا بعد النزاعين الروسي - الصيني والصيني - الفيتنامي، فاحتلت الزوايا.
اليوم تختلف الأمور، ليس فقط لأن الحرب الباردة انتهت، بل أيضاً لسببين آخرين على الأقل. فمن جهة، استقلت النزاعات الإقليمية إلى حد بعيد نسبياً عن النزاعات الكونية، ومواقف بلدان رجراجة كالصين وإيران وتركيا وجنوب أفريقيا تبدو الآن عصية على الإدراج في خانتي الانقسام الثنائي الأميركي - الروسي. وكانت أوروبا الغربية نفسها قد استعرضت قدرتها على التمايز حين انشقت فرنسا وألمانيا عن حرب العراق الأميركية في 2003، وذهبتا بعيداً في الاعتراض عليها. كذلك لم تعد الصراعات، من جهة أخرى، تمتلك إطاراً وطنياً كان في السابق جزءاً من تعريفها الراسخ. وها هي الحرب الدائرة منذ 2001 بين الولايات المتحدة و«القاعدة»، على اختلاف تنظيماتها، تعلن هذه الحقيقة، علماً أن الحرب المذكورة، وعلى ما تدل المواجهات الراهنة في سورية والعراق، وإلى حد ما في اليمن، تملك كل القدرة على إلحاق الحروب والنزاعات الأخرى بها. لقد صار «العالمي» يصعد من «الميكرو» إلى «الماكرو»، وقبل ذلك كان يصدر عن المركز المنقسم فتتلقفه أطراف منقسمة أيضاً.
إذاً، أبعاد ثلاثة أو أربعة حلت في المشهد الدولي محل البعدين. وبعض ما أداه ذلك التغير الكبير ويؤديه أن المواقف المتجانسة ذوت ذواء الـ «مع» والـ «ضد» القديمتين. فاليوم، يمكن المرء أن يكون «مع» و«ضد»، أو «مع» و»إنما»، أو«مع» في هذا و«ضد» في ذاك. فكيف مثلاً يحتسب التضامن الذي تبديه روسيا والهند، «صديقتا العرب»، مع إسرائيل، وما يترتب عليه من علاقات وتبادل استراتيجي؟ لكن أيضاً، ماذا عن ازدواج الموقف الممانع، إن لم تكن حيرته، حيال الحلف الدولي بقيادة أميركا التي تقاتل الخصم «داعش»، وحيال «داعش» الذي يتصدى للعدو أميركا، وماذا عن الموقف الممانع حيال عبدالفتاح السيسي، المناهض لـ«الإخوان» لكن المتقرب من الغرب والخليج، أو حيال حركة «حماس»، أو ثنائي الغنوشي والسبسي في تونس؟ وبالقياس نفسه، ماذا عن مواقف هذه الأطراف من سواها، بدءاً من السيسي المناهض لـ «الإخوان» إلى «حماس» الإخوانية، وكيف يتخذ الموقف من بناء الأحلاف العريضة عموماً؟
ودائماً يمكن الاستطراد كما يمكن العثور على حالات مشابهة أخرى، إلا أن الثابت أمران: أن الاستراتيجي اليوم مدعو إلى أن يكون أذكى بلا قياس مما كان، وأن الأيديولوجي مدعو إلى تغيير ذكائه القديم. وأبعد من هذا وذاك أن الدم، في البلدان الضعيفة، سيسيل بغزارة أكبر فيما الحروب قد لا تجد من ينهيها.
*عن جريدة «الحياة»