حتى أبعد الحالمين بنتائج ما يسمى بالربيع العربي، وأكثر تفاؤلاً اهتزت قناعته اليوم كثيراً بعد أن شاهد ما آل إليه «الربيع»، فهو لم يتحول إلى صيف أو حتى خريف، وإنما صار شتاءً قارساً أتى على الأفراد والمؤسسات والحكومات والمجتمعات والدول. فإلى ماذا انتهينا؟
بدأت كاحتجاجات شعبية عارمة، سعت لتغيير أنظمة الحكم العربية، ولكنها لم تغير الأنظمة، وإنما غيرت بشكل جزئي النخب الحاكمة، وكان الحلم آنذاك إنهاء الاستبداد والتحول إلى الديمقراطية في «عطش تاريخي» راقبه العرب والعالم. فالنخب لم تتغير، ولم تظهر الديمقراطية إلى الآن، وحتى من قدم تحليلات بشأن حاجة الديمقراطية إلى وقت حتى يتم مأسستها، فإن تجاهل تماماً حاجة الديمقراطية نفسها إلى بيئة مستقرة أمنياً على الأقل.
وفي ظل دول غير مستقرة، وصراعات لا تنتهي حول السلطة، وتصفية حسابات تاريخية، وتدخلات إقليمية وأجنبية ظهر التطرف الفكري الذي لم تسعه الوقت لأن ينتشر ويصبح أيديولوجيا منتشرة على نطاق واسع ليس لغياب الآليات المساعدة، وإنما لتحول هذا التطرف إلى سلوك يطغى على الأفراد ونزعاتهم، فظهرت الجماعات الإرهابية المتطرفة، سواءً كانت منخرطة فيما يسمى بـ «الربيع العربي»، أو جاءت بعد هذا الربيع.
سألت من دربني على حروب اللاعنف والثورات في العاصمة النمساوية عن جدوى وصول بعض الجماعات السياسية إلى سدة الحكم في الدول العربية التي شهدت ثورات، فقال: «ليس الهدف هو وصول هذه الجماعة أو تلك، وإنما الهدف هو خلق بيئة تتشتت فيها القوة السياسية، وبالتالي ليس لطرف أو لآخر القدرة على تجميع القوة السياسية من جديد».
فحوى حديثه أن المجتمعات العربية التي شهدت الثورات باتت بيئات غير مستقرة، ومن الصعوبة بمكان فيها تجميع القوة السياسية لهذا الطرف أو ذاك. مما يعني إمكانية الدخول في مرحلة تاريخية جديدة في هذه الدول، ليس فيها طرف قادر على احتكار النفوذ السياسي أو القدرة على التفوق فيه.
مع حالة تشتت القوة السياسية وتصاعد الجماعات المتطرفة في مناطق ممتدة من غرب الدول العربية حتى أقصى شمالها أدركت الجماهير عدم جدوى مطالبها، وأن ما طالبت به ـ وإن كانت مطالب مشروعة ـ لم تكن هناك حاجة للمطالبة بها بهذه الطريقة التي أنهت الأمن وأعدمت الاقتصاد وراح ضحيتها الآلاف. لذلك لم يكن غريباً أن يكون المطلب الأول هو عودة الأمن كأولوية في معظم الدول التي شهدت احتجاجات واسعة النطاق باستثناء الحالة السورية.
اللافت هنا هو تغير مزاج الرأي العام العربي الذي دفعه الشوق للديمقراطية إلى الثورة والاحتجاج العميق، ومن ثم فوجئ بالتطرف وانخرط فيه، وصار قابلاً لعودة حكم العسكر كما هو حال العرب في ستينات القرن العشرين.
الديمقراطية في الدول العربية مكلفة جداً، ويوماً بعد آخر نزداد قناعة بأنها ديمقراطية عصية بمفهوم عالم الاجتماع البحريني الدكتور باقر النجار. ولكن هذا لا يعني أن المطالبة بالديمقراطية والإصلاح الشامل ليست مطلباً شعبياً عربياً، بل ما يجب استيعابه من درس السنوات الأربع أن الهدف واحد ومشروع، ولكن هناك مئات الطرق التي يمكن أن تقودنا إلى ذلك دون إراقة الدماء، ودون نشر الكراهية، ودون الحاجة للتطرف متى ما حدث توافق بين الحاكم والمحكوم على الإصلاح والدمقرطة بالشكل الذي يتم التوافق عليه وبالشكل الذي يمكن أن يتناسب مع خصوصية كل مجتمع وظروفه.