اعتمدت حركة 4 مايو على فكر المصلح الصيني «ليانج تشى تشاو» وكتاباته منذ عام 1904 في أواخر عهد أسرة تشينج Qing وكذلك فكر تشانج تاى يان. واستفادوا من التطور العلمي والأدبي في اليابان ونهضتها الرائعة آنذاك التي أطلقها عصر الميجي، كما ركز المصلحون الصينيون على إحياء اللغة واهتموا بإحياء القومية الصينية المرتبطـــة بقوميـــة الهـــان Chinese Han باعتبارهم أكبر قوميات الصين، ولم يسعوا لتقسيم الصين أو إطلاق فكرة الأقليات محدودة العد مما قد يؤدي لتدمير الوطن، وإنما أكدوا لهم حقوقهم الثقافية والاجتماعية وليس من بينها الانفصال السياسي.
وهذا ما أخذت به الصين الحديثة منذ حركة الإصلاح والانفتاح بوجه خاص التي أطلقها الزعيم دنج سياو بنج عام 1978 وأدت لإحداث المعجزة الصينية والحفاظ على التراب الوطني الصيني، وإطلاق التنمية. فالإصلاح يعتمد على تربة خصبة وشباب واع وقيادات تنظر للمستقبل، ولا تعيش حبيسة الماضي ولا تدمر أوطانها بشعارات متطرفة، ومزايدات لا معنى لها. وحقاً قال العرب القدماء «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، وحرص هؤلاء جميعاً على وضع اللبنة الأولى في فكر الاعتدال وعدم حرق المراحل قبل نضوج التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لقد قامت نهضة الصين، كما قامت نهضة أوروبا وأمريكا، على استخدام المصطلحات الصحيحة، وليس المفاهيم المزيفة التي أطلقها صحافيون وسياسيون ومثقفون عرب في عصرنا الراهن، والتي أدت لتراجع الأدب والإعلام والسياسة وتخريب الاقتصاد ثم تدمير الأوطان، بشعارات لا معنى لها، وبأجندات غير وطنية، أو على أحسن الفروض بشعارات غير واقعية. أو كما قال العرب «كلمة حق أريد بها باطل»؛ مثل شعار «رفع المصاحف» في التاريخ الإسلامي والتي يسعى المنافقون لتكرار لإحداث مزيد من الدمار للأوطان. إن النهضة الصينية الحديثة هي استكمال لحركة 4 مايو 1919 التي استندت إلى دعوات الإصلاح التي عبر عنها كونفوشيوس بفكر مستقبلي منذ القرن السادس قبل الميلاد، وعندما سأله تلاميذه عن اليوم الآخر، قال إننا لم ننته من حل مشاكلنا في العالم الذي نعيش فيه حتى نفكر فيما لا نعلم، وحقاً تحدث القرآن الكريم عن أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وطلب منا الإيمان به والتسليم به دون بحثه لأن علمه عند ربي.
كانت جامعة بكين دائماً هي محور النهضة ومحور الثورة، وطلابها هم أداة نشر الفكر الإصلاحي وليس التخريب والتدمير وإهانة الأساتذة، كما حدث في الثورة الثقافية الكبرى في الصين أو في ثورات ما سمي بالربيع العربي الآن، وما يحدث من كوارث في جامعة الأزهر وجامعة القاهرة وغيرهما من خراب ودمار. وكانت مجلة «الشباب الجديد» هي الأداة التي تنشر الفكر الحديث وتدعو للإصلاح المستقبلي وبناء الوطن.
لقد وقع «خو شى» في خطأ كبير في الثلاثينات من القرن الماضي عندما نشر بعض كتاباته باللغة الإنجليزية في الصين بعنوان «توجهات ثقافية في الصين اليوم» وبعنوان «عصر النهضة الصينية»، لأنه لم يعبر عن حضارة الصين وفكرها وتراثها، ولكنه في تلك المرحلة نقل فكراً أمريكياً بحتاً فهاجمه مثقفون صينيون آخرون. ولكنه سرعان ما أدرك خطأه وأعاد الربط بين التراث والحضارة الصينية وبين الأفكار الحديثة في أوروبا وأمريكا، ولذلك أشار لعصور نهضة صينية في أسرة تانج Tang وفي الكونفوشية الجديدة في عصر أسرة «سونج» Song، وللروايـــات الصينيـــة العظيمــــة دون مخاصمة مع الفكر عبر الثقافات والحضارات، وأدرك «خو شى» وزملاؤه أن الكلمة مسؤولية كبرى، لأنها تشكل وجدان المجتمع وتبني فكر الجيل الجديد.
وحقاً قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «لا تجبروا أبناءكم أن يكونوا مثلكم فهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، هذا هو الإسلام الصحيح، وهذا هو الإصلاح الصحيح، ولذلك لا عجب أن قال الرسول الأعظم في أكبر تشبيه «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً إلا لبنة فأخذ الناس يمرون به ويقولون لو وضعت فيه اللبنة الباقية، فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء».
هذا هو الفكر الإسلامي المتكامل في التمسك بالاستمرارية والبناء على صحيح الماضي والنظر للمستقبل، ولعل ذلك هو عبرة تاريخ الصين وثورتها الإصلاحية التنموية، حيث البناء على الماضي سعياً لتحقيق طموحات الشعب ورفاهيته ومستقبله. وحقاً قال السيد المسيح عليه السلام «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». ونؤكد «ليس بالشعارات وحدها تُبني الأوطان». وحقاً قال الشيخ محمد متولي الشعراوي «إن الثائر يثور كالبركان ثم يهدأ ليبني الأوطان».
إذ إن مفهوم الثورة الدائمة مصيرها مجاهل وأدغال الغابات مع تروتسكي وأمثاله، والبناء هو طريق المستقبل، والاستقرار هو ركيزة البناء، والإيمان بالوطن هو أساس التقدم، وليس الولاءات والأجندات عابرة الحدود. الشباب هم عدة المستقبل، وأداته وأصحاب المصلحة فيه، فهل ندرك هذا ويعيد كبار مثقفينا النظر في فكرهم الماضوي، وتخليهم عن التراث وغربلته، والتمسك بثمينه النفيس، والتخلي عن الغث والزبد ليذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكن التمسك به، لكي يمكث في الأرض الخصبة لأوطاننا وشعوبنا.