لعل من أهم المصاديق الفعلية التي تحتاجها الدول والمجتمعات العربية اليوم هو المثول المطلق لفكرة الاعتدال في كل شيء، خصوصاً في المواقف السياسية والدينية، وكذلك في بقية سلوكياتنا وخطاباتنا التي تعتبر متكئاً لمسيرتنا نحو التقدم ودخول الحضارة الإنسانية من أوسع أبوابها.
لا يمكن لأي دولة في العالم بما تملكه من مقدرات وثروات وبشر أن تكون ناجحة في مسيرتها دون أن توظف مفهوم الاعتدال في سلوكها وبقية مناحي وجودها، كذلك المجتمعات الإنسانية، لا يمكن لها أن تنهض إلا عبر مفهوم الاعتدال، والذي يعد المناكف العنيد لكل مفاهيم الطيش وانفلات الغرائز.
إذا أردنا نحن العرب أن نقدم لأنفسنا نهضة حقيقية؛ فمن الواجب ترشيد خطابنا وسلوكنا ومنابرنا وعلمائنا ومساجدنا وصحفنا وإعلامنا ومدارسنا وتربيتنا لصغارنا، وأن نكون أكثر اعتدالاً حين يميل ميزان الحياة نحو الفوضى والاقتتال وفق نظرية الغرائز المنفلتة، وأن يكون الاعتدال سمة وجودية عندنا قبل أن يكون سلوكاً طارئاً في حياتنا، فالأمم المتقدمة اليوم هي الأمم المعتدلة، أما الأمم التي أصبح التطرف أكسجينها وميولها وثقافتها فإنها الأمم الفاشلة.
إن الدول والجماعات والطوائف المتطرفة لم تنجح حتى هذه اللحظة في أن تقدم مشروعاً يمكن أن يكون عوناً للإنسان والحضارة، فالتطرف هو البوابة الواسعة للإرهاب والعنف وإلغاء الآخر وقهره وظلمه وسحله وإبادته، فالتطرف هو العدو اللدود للاعتدال، ولهذا وجب محاربة التطرف وإعادة إحياء قيم الاعتدال التي أصيبت في مقتل بفضل خطابات الكراهية.
يجب على الأسرة أن تربي صغارها على قيم الاعتدال، وأن يربي عالم الدين عبر منابر المسلمين كل الناس على مفاهيم الحب والصلاح والخير، وأن يرسم كل من الإعلاميين والفنانين والمثقفين والكتاب والمعلمين والمربين منهجاً سلوكياً بلون الاعتدال لا غير وتبيان رفضهم من كل أشكال التطرف والتمييز، تلك السلوكيات التي تجاوزتها مجتمعات كبيرة في كافة أنحاء العالم المتحضر منذ قرون، بينما نحن اليوم مازلنا نتحدث عن أهمية الاعتدال في زمن الفتن!
يجب ضبط الفرد وضبط الأسرة وضبط المجتمع وتحصينهم من خطابات الكراهية والتطرف، كما يجب أن يكون خطاب الاعتدال منهجاً لمشروع بناء الإنسان في أوطان لا تحترم الإنسانية، كما يجب وضع وبناء القوانين الصارمة التي تجرم كل أشكال التطرف وتغذيه في دولنا المشحونة بالتخلف القيمي، سواء عبر المنابر ودور العبادة أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وبقية النوافذ الإعلامية الأخرى، كما يجب محاسبة ومعاقبة كل فرد أو جماعة أو خطيب أو إعلامي أو أي كائن من كان ممن يسعون لنشر بذور الفتنة في المجتمع الآمن عبر خنق رئة الاعتدال، وأن يتحرك المصلحون الحقيقيون لنشر الوعي بأهمية الاعتدال. أما ما دون ذلك من مجاملات وحملات نفاق رخيصة يروجها دعاة الفتن، فإنها لن تزيد الجرح إلا ألماً ونزفاً، والتي سيكون من أبرز ضحاياها، هو الإنسان نفسه.
- آخر السطر..
إن من أصعب أنواع الاعتدال هو الكتابة عنه، والأصعب من كل ذلك هو العمل به.