وفقاً للأهمية الكبيرة التى يحتلها النفط على صعيد الاقتصاد العالمي فإن حدة الاتجاه الحالي لأسعار البترول وانخفاضها الكبير حتى الآن بما يقارب 40% خلال بضعة أشهر قليلة منذ شهر يونيو الماضى، لابد أن تكون له تداعيات هامة لا يستهان بها أو التقليل من شأنها سواء على الصعيد الاقتصادي أو المالي وحتى على الصعيد الصناعي والتقني على حد سواء.
فيما يتعلق بالتداعيات الاقتصادية فإن هذا الحدث يمثل نوعاً من تحويل الثروة من الدول المنتجة إلى الدول المستهلكة للنفط، هذا التحويل يقدر حتى الآن بما يتجاوز 1,3 تريليون دولار سنوياً.
من التداعيات الاقتصادية الأخرى، كذلك هو أن هذا الانخفاض الهام في أسعار النفط من شأنه أو يفترض أن يساعد على سرعة نمو وتعافي الاقتصاد العالمي. كذلك فإن هذا الانخفاض يتوقع أن يكون في صالح الدول المستوردة للنفط والتي ستشهد تحسناً ملموساً في فاتورة استيرادها من المنتجات النفطية.
أما على صعيد التداعيات المالية فهي بدون شك كبيرة جداً، فمن ناحية إن ميزانيات الدول المنتجة للنفط ستخضع لإعادة نظر بما يشمل خفض النفقات ليس بالضرورة النفقات الجارية التي في الغالب يصعب التراجع فيها لكن المرجح وكما هو معتاد أن يكون ذلك على حساب النفقات الرأسمالية التي هي في الأصل تمثل النسبة الأقل في الميزانية وإن كانت ضرورية ومطلوبة. من التداعيات المالية الأخرى هو احتمال تدني التصنيف الائتماني لبعض الدول المنتجة للنفط والتي قد لا تكون مراكزها المالية بالقوة المطلوبة، الأمر الذي سوف يرفع من تكاليف اقتراضها، خاصة أن احتمال لجوئها للاقتراض مجدداً ضمن هذه الظروف هو احتمال مرجح. هذا الأمر في الوقع لا يقتصر على الدول ولكنه ينسحب أيضاً على شركات النفط وخاصة تلك العاملة في مجال النفط الصخري والتي توسعت اعتماداً على الاستدانة والاقتراض. والسؤال في هذا الصدد هو عن مصير المصارف التي أقرضت هذه الشركات خاصة إذا وصلت هذه الشركات بسبب تدهور أسعار النفط إلى مستوى تعجز فيه عن تسديد التزاماتها المالية أو في حالة وصولها إلى حافة الإفلاس على ضوء استمرار مثل هذه التطورات التي حسب ما يبدو غير محسوبة.
فى الواقع، إن التداعيات الفنية والصناعية الخاصة بقطاع وسوق النفط هي في المحصلة التي سوف تحدد التوازن واستقرار أسعار النفط. إن أول هذه التداعيات هو ما شاهدناه من تغيير ملحوظ فى سياسة واستراتيجية منظمة الدول المصدرة للبترول «الأوبك»، حيث في المعتاد تقوم هذه المنظمة بتخفيض إنتاجها من النفط لرفع الأسعار إلى ما كانت عليه. لكننا هذه المرة وجدنا المنظمة تتبع استراتيجية مختلفة لكنها مبررة قائمة على ترك السوق من خلال العرض والطلب أن يقوم بتحديد السعر المناسب.
لقد ضحت المنظمة ولفترة طويلة من أجل استقرار أسواق النفط بالرغم من أن لديها ميزة نسبية على غيرها من المنتجين الذين ليسوا بالضرورة الأكفاء أو الأقل تكلفة، الأمر الذي شجع كثيراً من المنتجين الهامشيين على دخول سوق النفط ومنافسة دول منظمة الأوبك وأخذ حصة متزايدة من سوق النفط على حساب الأوبك أن الاستراتيجية الجديدة للمنظمة سوف تعيد الأمور إلى نصابها وتحفظ للمنظمة حصتها العادلة من سوق النفط، هذا إضافة إلى استبعاد المنتجين الأكثر كلفة في هذا القطاع. الإشكالية التي قد تواجه المنظمة في هذه الاستراتيجية هي إلى أي حد يمكن لجميع أعضاء المنظمة التماسك والصمود في هذا الموقف خاصة أن بعض الأعضاء في حالة مالية صعبة مثل إيران والعراق وفنزويلا. هناك أيضاً الاحتمال بأن تكون هذه الاستراتيجية في صالح منافسي الأوبك وبالذات الشركات العاملة في النفط الصخري، حيث من شأن هذه الاستراتيجية وإن أدت إلى ضغوط كبيرة على هذه الشركات إلى الحد الذي يمكن أن يخرج بعضها من السوق، إلا أن مثل هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التحسن في تكنولوجيا النفط الصخري، وبالتالي إمكانية استمرار الإنتاج في هذا القطاع بتكاليف أقل.
على كل حال فإن التقديرات تشير إلى أن سوق النفط يعاني في الوقت الحالي من فائض في حدود مليون إلى مليون ونصف برميل في اليوم. وهذا الفائض راجع أساساً إلى عاملين، الأول هو زيادة المعروض من النفط، والثاني يرجع إلى ضعف الطلب بسبب تدني الأوضاع الاقتصادية في كثير من دول العالم وخاصة في الدول الأوروبية والصين وغيرها التي تعاني من ضعف معدلات النمو الاقتصادي.
وسواء تعلق الأمر بالمعروض أو بمستوى الطلب على النفط فكلا الأمرين لا يبدوان أنهما أمور قابلة للحل في المدى القصير، حيث أن العملية حسب ما يبدو تحتاج لبعض الوقت لإعادة هيكلة سوق النفط وفقاً للمستجدات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية. وإلى أن نصل إلى تلك المرحلة فإن سوق النفط سيظل خاضعاً لضغوط تصحيحية تعيد فى النهاية إلى السوق التوازن المنشود.
الرئيس السابق لصندوق النقد العربي