الكثير من الأدباء والمؤرخين والسياسيين وأهل الاقتصاد ومن يحملون معهم ذاكرة وتاريخ البحرين في العديد من المجالات والتي قد تكون دروساً يستفد منها جيلنا الشاب بعد الاطلاع عليها وقد تكون مادة تراثية أو تصلح بأن تكون سهرة تلفزيونية تروي حقبة من تاريخ بلدنا البحرين وفيها الكثير الكثير الذي قد يفتح أبواباً ويشرعها للمرور من خلالها لهذا الجيل الباحث عن تراثه وذاكرة رجالاته الأولين.
للأسف هم لا يقفلون في وجهك الأبواب ولا يرفضون استضافتك ولكنهم يعطونك من الوعود والمواعيد «الطويلة الأمد» التي تشعرك بأنهم يقولونه بكل أدب واستحياء «لا»، تلك مشكلتنا مع الأصدقاء عندما نحاول التواصل معهم والحديث عن ذاكرتهم والنهل منها ولو القليل وبإذن منهم بالتأكيد.
لكن هناك أكيد الوجه الآخر المتعاون والمرحب والذي لا يخشى الحديث عن ماض كدح فيه وأسرته لكي يرتقي سلالم النجاح، ولا يخجله إن كان والده يعمل «كولي» في الشركة أو «بناي»، أو «سواق تاكسي» لكن يزيده ذلك شرف التقدير والاحترام لذلك الرجل الذي استطاع أن يصنع من عمله البسيط رجالاً شرفوا ديرتهم ونشروا في دروبها العلم.
مازلت أتذكر حواري مع عبدالكريم أحمد بوجيري الذي امتد لساعات طويلة نقل لي بكل فخر واعتزاز ما كان يعانيه والده «سائق التاكسي» من أجل أن يوفر له ولشقيقيه مصروف الدراسة ليعود من سوريا حاملاً شهادة البكالوريوس في العلوم الاقتصادية مع تخصص في الاقتصاد من جامعة حلب بسورية والتي حصل عليها في العام 1976 كان يتحدث عن تلك الأيام وكيف كان لوالده أن يشتغل الساعات الأطوال ليبعث أبناءه للدراسة ويوفر لهم المصروف الدراسي في تلك الأيام الصعبة ويضيق الحال على بيته من أجل أن يعود أبناؤه بالنجاح والتفوق، ذلك ما نبحث عنه بأن تجد هذا الإنسان البسيط هو سبب نجاح رجالات البحرين والذين يعتزون بمثل هذا الأب وتضحياته التي هي دافع لهم اليوم في تربيتهم لأبنائهم من هذا الجيل الذي لم يعان ما مر به والدهم من عذاب لكي يتفوق في دراساته وعمله.
كان بو طارق يتحدث عن والده بكل الحب والاحترام ويقول والدي كان مسؤولاً عن تسعة أولاد وكان يعمل سائق تاكسي، فكم كان عليه من الساعات أن يعمل ويوفر وجبة أولاده وملبسهم وطلباتهم؟ وعندما يكبر الطفل تزداد مصاريفه حتى أنني كنت أسأل الوالد كيف لك أن ترسلنا إلى الدراسة في الخارج أنا وأخواي المرحوم عيسى وعلي؟ كنا نحن الثلاثة ندرس في سوريا وكانت الدراسة تكلفنا شهرياً 200 ليرة أي 20 ديناراً بحرينياً، ما يعني أن يصرف على أولاده الثلاثة في حدود 60 ديناراً بحرينياً شهرياً، ومدخوله من التاكسي لا يتجاوز الأربعين ديناراً بحرينياً.
هذا بالإضافة إلى معيشة عائلته في البحرين، وكنت أبحث عن إجابة لسؤال حيرني كثيراً؟ هل كان يستلف من الآخرين لكي يصرف على دراستنا، وعندما سألت الوالد: «إشلون كنت ترسل لنا هذا المبلغ وأنت مدخولك أقل بكثير من المبلغ الذي ترسله لنا»، فأجاب: «الله دائماً يفتح لك باب الرزق، ولا يسكر لك طريق، وكنا نتكل على الله والله دائماً لا يرد عبده، كنت آخذ «قنطراز» مع بعض التجار لتوصيل أولادهم إلى المدارس الصبح فكانوا يعطوني مبلغ أكبر من المبلغ العادي والحمد لله.. الله كان يعينني على أن أدرسكم».
تذكرت هذا الحوار مع الأستاذ عبدالكريم والساعات الجميلة التي كان يتحدث فيها الرئيس التنفيذي لبنك البحرين والكويت وأنا التقي الدكتور عيسى أمين في حوار الذاكرة الذي كان يشعرني بأنني أقرأ واحداً من كتبه التاريخية التي ألفها وقدم من خلالها الكثير من النفع والمعرفة بأن نبش في ذاكرة التاريخ وترجم إلى العربية العديد من المؤلفات إن كانت عن البرتغاليين أو الإنجليز أو الفرس ومازال ينبش في الذاكرة رغم مشاغله بعيادته ومرضاه الذين لا يتوقفون عن زيارته واستشارته للعلاقة البسيطة التي يتميز بها هذا الدكتور مع مرضاه، فالدكتور أمين كان يتحدث بكل اعتزاز عن والده «استاد بناي» الذي بنى العديد من مرافق البحرين البارزة ومنها مسجد الفاضل قبل أن يترك البحرين ليعود إلى وطنه، وهو من قدم لنا شخصيات نعتز بتواجدها بيننا وآباء كانوا نموذجاً للاحترام والبساطة في العلاقة، ذلك ما نبحث عنه في نبش دفاتر الماضي ولنعلم ونتعلم من آباء ضحوا ليقدموا لأبنائهم الطريق الذي يوصلهم للمجد والنجاح وإن لم يكن مفروشاً بالورود لكنه الإصرار الذي غرسه الوالد بأبنائه ويربيهم على المحبة والتحدي والدوس على الشوك وتخطي كل الصعاب من أجل أن يصل الإنسان لدرب رسمه وأراد أن يصل إلى نهايته وبالفعل هم الآن نموذجان من أبناء البحرين يقدمان كل يوم النجاح والعلاقة والبساطة لأنهما لم يخجلا في الحديث عن رجل ضحى من أجل أن يضعهما على الدرب في ظروف أكثر من قاسية ومستحيلة، لكن العيب الذي يعاني منه الآخرون أنهم يمسحون ذاكرة الوالد الذي ربى وضحى «بأستيكه» وكأنهم وصلوا للحياة بمجهوداتهم ويتصورون بأن الحديث عن سيرة أهلهم البسطاء والذين وصلوا الليل بالنهار من أجل نجاحات أبنائهم شيء من المخجل والعيب أن يتحدثوا عنه.
الرشفة الأخيرة
«إن الوالد الذي لا يعلم ولده الاعتماد على النفس يعلمه اللصوصية».
مثل إنجليزي