هدفان لموسكو من مؤتمرها المعد خصيصاً لنظام مطلوب منه أن يحاور نفسه:
الأول، شق تنظيمات المعارضة، فتدميرها، والثاني، إحراجها أمام العالم وتصويرها على أنها هي العقبة
خلال بضعة أيام تستضيف العاصمة الروسية موسكو مؤتمراً «حوارياً» حول سوريا.
ما قيل، ومازال يقال، بأن الغاية من المؤتمر هي «الحوار» بين النظام والمعارضة، وحتى هذه النقطة.. لا بأس بذلك. أيضاً قيل، ومازال يقال، بأن روسيا تلعب دور «الوسيط»، وهنا أيضاً أي وساطة نزيهة تنهي معاناة الشعب السوري مرحب بها، أو كما يقال بالعامية الشامية «وحبة مسك».. غير أن ثمة إشكاليات عدة تتجلى أكثر فأكثر مع العد التنازلي للمؤتمر المزمع..
من هذه الإشكاليات، أن «الوسيط» أو «راعي المؤتمر» الذي يزعم أنه ينطلق من تفاهم «مؤتمر جنيف - 1»، حليف استراتيجي لنظام آل الأسد وليس وسيطاً. وهو لم يكف عن تزويد جيش النظام بحاجته من السلاح منذ تفجرت الانتفاضة الشعبية في مارس (آذار) 2011، ومن ثم، استخدم مع الصين، حليفته الصامتة، «الفيتو» 3 مرات لمنع إدانته ووقف ارتكابه المجازر بحق المدنيين، بما في ذلك استخدام سلاح الطيران والأسلحة الكيماوية.
أكثر من هذا، رفض هذا الوسيط «اللاوسيط»، منذ انتهاء «جنيف - 1»، مطالب المعارضة القائلة بأنه لا يمكن الانخراط بمرحلة انتقالية مع بقاء سلطة تقتل شعبها وتهجره متسببة حتى الآن بكارثة نزوح من الأسوأ في تاريخ العالم الحديث.. لا بل قلب النقاش رأساً على عقب، رافضاً أي بحث بأن ما يحدث في سوريا «انتفاضة شعبية» ظلت سلمية لمدة لا تقل عن 8 أشهر على الرغم من تعرضها للقمع بالرصاص الحي والمجازر النقالة والتطهير الفئوي.. مصراً على أن كل ما يحدث «مؤامرة إرهابية أصولية» ضد النظام وضد سوريا نفسها!
ثم، بما يخص المعارضة التي يزعم «الراعي» أو «الوسيط» الروسي أنه يدعوها لمحاورتها، فإنه بعدما قرر «حدود» الحوار و«سقفه»، رافضاً البحث بمرحلة انتقالية لا تشمل بشار الأسد وأركان سلطته الأمنية، ها هو ينسف عملياً الآن الصفة التمثيلية للمعارضة.. ذلك أنه بادر، أولاً، إلى انتقاء أفرادها بنفسه. وثانياً، دعاها كأفراد لا كتنظيمات.. ما يعني ضمنياً أنه لا يعترف بأي صفة تمثيلية لأي تنظيم معارض، في حين دعي نظام الأسد كـ«حكومة شرعية» أي كسلطة رسمية.
ثم جاءت ثالثة الأثافي بالأمس، عندما حذر سيرغي لافروف، عميد الدبلوماسية الروسية الباسمة، طيف المعارضين السوريين الذين حظوا بنعمة الكرملين فوجهت إليهم الدعوة للمجيء إلى موسكو، من مغبة التغيب.. تحت طائلة إضعاف موقفهم التفاوضي!
عملياً هناك هدفان اثنان لموسكو من مؤتمرها المعد خصيصاً لنظام مطلوب منه أن يحاور نفسه:
الهدف الأول، شق تنظيمات المعارضة، فتدميرها، عبر اللعب على اختلاف أولوياتها، سواء بين «الائتلاف الوطني السوري» و«هيئة التنسيق»، أو بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، أو بين التيارات الإسلامية والتيارات اليسارية والقومية والليبرالية والأقلياتية.
والهدف الثاني، هو إحراج المعارضة أمام العالم وتصويرها على أنها هي العقبة في وجه أي تفاهم، بينما النظام مستعد للحوار ويلعب وفق الأصول، بل غدا «الشريك الفعلي» في «الحرب على الإرهاب التكفيري» ممثلاً بتنظيم «داعش» و«القاعدة» و«جبهة النصرة» وأخواتها. وفي هذه النقطة بالذات نلحظ ليس فقط تزكية لطروحات النظام وتغطية لموقف موسكو المتآمر على الانتفاضة السورية منذ يومها الأول، بل نلحظ أيضاً تغطية لانقلاب، أو بالأحرى انكشاف موقف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما من المحنة السورية.
بناء على ما سبق، يتضح أن موسكو تخوض حرباً ضد المعارضة السورية، وأن مؤتمرها لا علاقة له بأي حوار موضوعي، بل هو مناورة لتشتيت المعارضة والقضاء عليها في مناخ عالمي ساخط على الجماعات المتطرفة التي ترتكب فظائعها باسم الإسلام. ولقد جاءت عملية الأخوين كواشي في العاصمة الفرنسية باريس باستهداف صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة.. تعزيزاً لترتيب الأولويات الأمنية والسياسية دولياً.
اليوم المعركة العالمية هي التصدي لـ«الإرهاب الداعشي - القاعدي». ومع أنه لا بأس في ذلك بتاتاً، لأن الإسلام نفسه هو المتضرر الأول من هذا الإرهاب، تتمثل المشكلة الحقيقية في أن القوى المتحمسة لخوض هذه المعركة مكتفية بمعالجة الأعراض بدلاً من الجذور والمسببات.. بل، يجب التذكير بأن القوى الإقليمية التي تواصل الزعم بأنها شريك في «الحرب على الإرهاب» كانت لعقود من أخطر المتاجرين بهذا «الإرهاب» وترويجه واستغلاله. والنظام العراقي الحالي نفسه يتذكر جيداً عبر أي حدود كان «الإرهاب القاعدي» يأتي إلى أراضي العراق لمناوشة القوات الأمريكية، وبغض أنظار أي جهات!
نحن الآن أمام أزمة مأساوية تفاقمت أكثر مع التبني الأمريكي شبه الكامل لمواقف روسيا، وصولاً إلى مباركة مؤتمر موسكو. وهنا يجب ألا ننسى أن الرفض الأمريكي المستمر لمطالب المعارضة السورية و«أصدقاء سوريا الحقيقيين» بإنشاء مناطق عازلة، وفرض مناطق حظر طيران، والمعاقبة على المجازر -بما فيها استخدام الأسلحة الكيماوية- أدى إلى الوضع الكارثي الذي نرى اليوم داخل سوريا وفي الدول المحيطة بها. وفيما يلي أبرز ملامحه:
1- أطلقت واشنطن يد النظام باستخدام أي سلاح بحوزته لقمع شعبه وترويعه.. بإحجامها عن تنفيذ أي من تهديداتها له.
2- كبحت واشنطن بسلبيتها «قوة دفع» الثورة، فحالت دون انشقاق مزيد من الضباط والساسة بعدما وجهت رسالة ضمنية واضحة للسوريين، بأنها لا تنوي التصادم مع إيران وروسيا حول سوريا، ولن تفرض على الأسد التنازل.
3- شجعت عملياً، عبر سلبيتها أيضاً، إيران على نقل المقاتلين الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين.. وغيرهم، كما شجعت روسيا على مواصلة إمدادها النظام بكل أنواع السلاح الذي يحتاجه.
4- أضعفت قوى الاعتدال داخل الانتفاضة السورية وزرعت فيها اليأس، وجعلت «الجيش الحر» أضعف القوى الميدانية المعارضة، بينما أتاحت خلال 4 سنوات لمتطرفي العالم المجيء إلى سوريا والتجمع فيها، ثم نسف غايات انتفاضتها وتشويه صورتها.
ما سيعقد في موسكو «مؤتمر - مؤامرة» لضرب سوريا وانتفاضتها، وهو مثل «مبادرة دي ميستورا»، ما عاد يخفي الكثير وراء أكمته.
* عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية