النوستالجيا هي الإحساس بالحنين إلى الماضي، وهي مظهر من مظاهر الرومانسية في الشعور والتعبير والتضمين الأدبي. وفي أسوأ الحالات تتحول النوستالجيا إلى عرض من أعراض الاكتئاب وإلى حالة من حالات الانعزال والانفصال عن الواقع.
اعتدنا الحنين إلى منازلنا القديمة وأصدقائنا الأولين وجيراننا السابقين وإلى الأشياء التي كنا نألفها وتربطنا بها الذكريات مثل رائحة الطعام أيام الطفولة، أفلام الكرتون التي تعلقنا بها، أول هاتف محمول نشتريه، أول ساعة يد غالية الثمن تهدى إلينا، جوائز التكريم، معدات الرحلات، ملابسنا التي ندخرها للمناسبات الخاصة. مازال يسكننا التقدير للأشياء التي أحدثت فينا الدهشة والغبطة حين اقتنيناها. بعضنا يتقن فن الاحتفاظ بالمقتنيات القديمة لديه. وبعضنا يعرف كيف يحول الصور القديمة إلى سيرة تاريخية متطورة مشحونة بالمشاعر والذكريات الناطقة.
إحدى صديقاتي الممتلئات رومنسية وتثميناً للذكريات كانت تحرص على الاحتفاظ بكل شيء هو الأول في موقعة؛ أول كراسة تستخدمها في الصف الأول الابتدائي، أول مريول مدرسي، أول شريط كاسيت أغان تشتريه هي، بطاقات التهنئة المختلفة في الأعياد والمناسبات السعيدة. حتى تحول منزلها إلى مخزن «كراكيب» اضطرت آخر الأمر، في إحدى حملات التنظيف، إلى التخلص من ثروتها التاريخية كاملة.
نحن نستخدم تعبير «الزمن الجميل» للتعبير عن سياق تاريخي اتسم بثقافة فنية وذوقية وأخلاقية معينة، ونعبر عن نفسنا وعن الزمن الذي شهد بساطتنا وتلقائيتنا بـ«زمن الطيبين»؛ لأننا نظن في أنفسنا أنا كنا قنوعين وأننا كنا نقيم علاقات حميمة مع كل ظرف وكل موقف وكل شيء يحيط بنا. ثمة تركيبة فيزيائية واجتماعية وثقافية في السنوات الماضية سمحت لنا بالتأمل وبالاستغراق في علاقاتنا وتعاملاتنا. وجود علاقات بيننا وبين تفاصيل حياتنا جعلنا نستشعر إنسانيتنا بسعة فارقة عن حالة الاغتراب عن الموجودات التي تمور بها الأيام العجلى التي نعيشها.
أسوأ حالات النوستالجيا التي قد يعيشها المرء هي الإحساس بالحنين للأشخاص الذين رحلوا عن الدنيا وطووا في قبورهم الزمن الجميل. تلك بوادر اكتئاب يتعين مقاومتها لأنها تخلق الشعور بعدم الانسجام مع الواقع والانفصام عن الحياة والرغبة في الرحيل، فيتحول الإحساس الحزين بالحنين إلى إشارات دماغية لأجهزة الجسم تأمرها بالضمور والتعطل والخلل، وهذا مدخل كثير من الأمراض النفسية والعضوية التي قد تنتهي بالرحيل الفعلي وفق ما اشتهى الإنسان الكئيب.
مشكلة الجيل الحالي أنه جيل الزمن السريع، زمن الاستهلاك. حيث يصبح كل شيء مثل مناديل الورق، صنعت لمرة واحدة فقط ولتسكن سلة المهملات في آخر أمرها. قديماً كانت المناديل تصنع من القماش وتطرز أطرافها بزخرفات رقيقة. هذا الجيل ليس له ذاكرة راهنة، وهو منقطع عن التاريخ. لا يعرف الحميمية بقدر ما يفهم البراغماتية، لا يتعلق بالأشياء بقدر ما يحرص على التجديد والتغيير والاستعراض، والفرجة أيضاً.
أي الفريقين أفضل؟ أن تأسرك علاقتك بالماضي؟ أو أن يشغلك ما ستحوز عليه مستقبلاً؟ أن تكون رومانسياً أو أن تكون بارغماتياً؟ وكيف تزاوج بين الحالتين في عقلانية قد يتصدى لك فيها، بحدة وصرامة، الفاصل الزمني الفارق؟. كل إنسان يمتلك إجابته الخاصة المستخلصة من خصوصيته. ولكن... تمتعوا بالأشياء والأوقات والأشخاص. استغرقوا في ما يحدث لكم وتأملوا. فإن مررتم كراماً على كل شيء فسيعبر بكم الزمان دون أن يخلف فيكم ذاكرة جميلة واعتزازاً إنسانياً بالأيام التي خلت.