من أهم مباحث الإعجاز القرآني التي تم تسليط الضوء عليها في القرن العشرين؛ مبحث التصوير الفني. حيث ألف بعض الباحثين مصنفات مختلفة في هذا المجال منهم الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وسيد قطب. ودراسة التصوير الفني في القرآن تقوم على إدراك تقنية التصوير والتمثيل والتشبيه في الآيات أو كيفية رسم الآيات لمشهد ما، سواء كان نفسياً أو طبيعياً أو سردياً، ومن ثم استشعار أثر التصوير في إيصال المعنى وتعميقه.
يقول سيد قطب: «إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن،...، فهو تصوير باللون وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيراً ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والأذن والحس والخيال، والفكر والوجدان». بمعنى آخر إن التأمل في التصوير الفني في آيات القرآن الكريم هو الذي يبعث الحيوية في تدبر الآيات، ويستحضر المعاني والمشاهد ويجسدها ماثلة في وعي القارئ والدارس للقرآن الكريم.
ويمكننا تأمل أحد نماذج التصوير الفني في الآية 164، من سورة البقرة التي تتضمن تصوير مشهد طبيعي في قوله تعالى {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون}، فهذه آية واحدة (بالموازين القرآنية) ولكنها تضمنت دلالات تصويرية لا محدودة تتطور من الوصف الحسي المجرد إلى الوصف السردي الحيوي.
فقارئ الآية يستطيع تخيل منظر طبيعي لجزء من البحر بين السماء والأرض تسير فيه السفن وتكون على ضفته يابسة. ثم تدب الحركة في المنظر حين تتعاقب حركة الليل والنهار التي ستحول المنظر إلى مشهد تسير فيه الفلك صاخبة بحركة الناس والعمال الذين يسعون إلى ما ينفعهم وتغير فيه ألوان الأرض والسماء والماء بين إشراقة النهار وظلمة الليل، ثم يتعالى ضجيج الأصوات في المشهد بتزايد المكونات الحيوية فيه، حين يسقط المطر وتحيا الأرض فتنتج المزروعات التي بها يحيا البشر ودواب الأرض. فيدخل المشهد في حالة سردية كونية تشي بقصة الأرض التي عماد الحياة فيها دوران الأفلاك وسقوط المطر اللذين يضبطان حركة المخلوقات وإيقاع الحياة على الأرض. إنها آية قصيرة لكن آثار التصوير التي اكتنزت بها جعلتها سيرة مختزلة تترآي للقارئ ماثلة أمام عينيه وملء سمعه.
وفي القرآن آيات كثيرة يمكن أن يتأملها القارئ من باب التصوير الفني، منها الآيات السردية في قصص القرآن، ووصف مشاهد يوم القيامة والجنة والنار، وتصوير الحوارات الداخلية والمتبادلة بين المشركين والمؤمنين وغيرهم. إن عملية استحضار المشاهد القرآنية استحضاراً ينبو بها عن التجريد والسكونية، ودراسة العمق في دلالات التصوير وأبعاد الوصف القرآني وبعث الحياة والحيوية في حركتها وإيحاءاتها ودلالاتها أداة من أدوات التمعن والتفكر والتدبر التي أمرنا الله تعالى بها حين نقرأ كتابه العظيم.