كانت خطبة الجمعة عبر تاريخ المسلمين تتناول وتعالج الكثير من القضايا المجتمعية والأخلاقية والتربوية، وكان المسلمون الأوائل يحافظون على حضور خطبة الجمعة من أجل الاستفادة من دروسها ومواعظها، كما إنها كانت تبياناً حقيقياً لأحكام الشريعة السمحاء، والتي دائماً ما تدعو إلى الخير والحب والصلاح وتعلم الفرد العادي مقاصد الفقه والشرع.
هكذا كانت خطبة الجمعة، لكن ومع تطور الأحداث السياسية المتسارعة في العالمين الإسلامي والعربي في العقود الأخيرة، دخلت بعض المحددات العنيفة في هذا الإطار لتغير من النمط التقليدي لخطب الجمعة، فبدأ الخطباء يتحدثون عن فلسطين والاستعمار والحرية والشيطنة البشرية وعن الكثير من الهموم والقضايا السياسية المعاصرة بطريقة حماسية وساخنة.
لم تقف خطبة الجمعة عند هذا الحد، بل أصبحت من العوامل المهمة في تغيير مزاج الأمة والمجتمعات الإسلامية قاطبة، وفي كثير من المناطق الإسلامية أصبحت خطبة الجمعة خالية من الوعظ والإرشاد وتصحيح أخطاء الإنسان المسلم، كما إنها لم تعد تعالج الأخلاق والقيم التي بدأت أمتنا في التنازل عنها لأجل مصالحها المادية، حتى تحولت خطب الجمعات إلى خطابات سياسية وحزبية ومذهبية وطائفية وفئوية ضيقة، وبهذا ضاع الهدف الأساسي من تشريع خطبة الجمعة بعد انحراف مضامينها وأهدافها التي رسمها الإسلام لكل المسلمين عبر كل العصور.
ليس هذا وحسب، بل أصبحت خطبة الجمعة عبارة عن عامل مهم في شحن النفوس بطريقة سلبية، وصارت مدعاة لغسل العقول والتحريض على الكراهية بدل أن تكون الخطبة الأسبوعية صيغة قيمية لتبادل الأفكار وتصحيح الأخلاق ونشر الوعي، حتى رأينا الكثير من المتطرفين الإسلاميين خرجوا علينا من تحت منابر الجمعة ومن بين عباءة خطيب لا يراعي مصلحة المسلمين.
نحن وفي الوقت الذي نطالب فيه أن تكون خطبة الجمعة منارة للعلم والمعرفة ونشر ثقافة الصلاح والإصلاح، وكشف فساد الظالمين والطواغيت والمستعمرين، لا يمكن أن نقبل أن تتحول هذه الخطبة إلى ساحة لمواجهة المختلف ولنشر ثقافة الحقد والكراهية، كما لا يمكن قبول أن تتحول خطبة الجمعة إلى ساحة لتصفية الخصوم لدرجة الفجور فيها، أو أن تنحرف قيم الخير التي كنا نستمع إليها في خطب الجمعة فتتحول إلى مجموعة من الألفاظ البذيئة والقيم الغريبة التي من شأنها أن تشق الصف الإسلامي، لينقلب الإنسان المسلم إلى شخص يكره الحياة ويحب الموت في الطريق الخطأ.
نحن ومهما صغر حجمنا في هذا الاختصاص إلا أننا ننصح إخوتنا خطباء الجمعة في وطننا وفي كل العالم الإسلامي بتوخي الحذر في الطرح، وأن يكون طرحهم طرحاً متوازناً وعاقلاً ورشيداً بعيداً عن الإسفاف والغرق في مفاهيم أجنبية بعيدة كل البعد عن روح وفكر الشريعة الغراء، كما من الضروري أن تخلو خطبة الجمعة من التحريض على الآخر وقمعه أو أن تكون مغسلة لغسل العقول البسيطة التي أتت بكل عفوية إلى الجوامع لاستماع لطيف الكلام وجميل الإرشاد ورصانة المواعظ وبلاغة القرءان وسلامة الحديث، فإذا خلت خطبة من كل هذه القيم الخيرة، فحينها يكون ترك الجمعة خيراً من ضياع النفس في أهواء خطيب لا يدرك طريق الحق أو لا يعلم إلى أين يسير، ولو من باب دفع الضرر عن النفس، والنأي بها عن منزلقات الفتن، وكان الله غفوراً رحيماً.