تمثل العلاقات المصرية الصينية منذ تبادل التمثيل الدبلوماسي في مايو 1956 - إثر لقاء الرئيس جمال عبدالناصر مع رئيس وزراء الصين جوان لاي آنذاك- علامة فارقة في تاريخ البلدين تتمثل مظاهرها في تحقيق انطلاقة في علاقات الدولتين وانفتاحاً في سياسة كل بلد على الطرف الأخر. وهكذا تطورت علاقاتهما حتى عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي زار الصين ثماني مرات وعهد الرئيس السابق محمد مرسي الذي كانت الصين أول زيارة له خارج المنطقة العربية، ولكن لم تترك الزيارة الأخيرة أثراً ايجابياً ملموساً، ربما لقصر المدة، وربما لعدم حدوث تقارب فكري بين القيادتين، وأيضاً وقوع بعض الأخطاء البروتوكولية.
ومن هنا جاء الأمل في تحقيق انطلاقه جديدة في العلاقات بين مصر والصين استناداً إلى عدة اعتبارات:
الأول: الجدية التي يتسم بها عمل القيادة المصرية برئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسي مقارنة بما كانت عليه القيادات المصرية في السنوات الأخيرة.
الثاني: ارتباط مشروع النهضة المصري بمنطقة قناة السويس وهي المنطقة التي ارتبطت بعلاقة وثيقة في تواصل البلدين، ففيها منطقة شمال غرب خليج السويس، التي ارتبط اسمها بعلاقات مصر والصين وخاصة مع منطقة تيانجين ولكن لعدم جدية الجانب المصري بما يتماشى مع مفاهيم التنمية ومستلزماتها من الجانب الصيني، وهو ما اعتقد أنه تغير أو يمكن أن يتغير الآن في ظل قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي وتركيزه على منطقة قناة السويس، وأيضاً حرصه على تطوير القوانين وخاصة قوانين الاستثمار والاهتمام بالبنية الأساسية.
الثالث: حدوث التغير في القيادة المصرية وربما تواكب مع تغير مماثل في القيادة الصينية وإن سبقها تاريخياً، وإن كان شبه بين القيادتين في حرص كل منهما على العمل الجاد والتغيير السريع وتقديم نموذج أكثر حداثة في القيادة السياسية ويتجلي ذلك في تولي قيادة صينية جديدة بفكر جديد بزعامة شي جينبينغ يسعى لتطوير علاقات الصين مع العالم الخارجي ونأمل أن يتم إدخال تطوير عليه يأخذ في الحسبان طبيعة كل دولة ونظامها وقوانينها وليس التمسك بشدة بوجهة النظر الصينية والخبرة الصينية المعروفة.
الرابع: أن القيادتين المصرية والصينية حريصتان على الانطلاق في مشاريع عملاقة ذات أبعاد استراتيجية فالرئيس الصيني شي جينبينغ أطلق منذ سبتمبر 2013 مبادرة إحياء طريق الحرير والحزام الاقتصادي وعقدت العديد من الندوات حول ذلك، وهذا يتشابه مع مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسي في إطلاق مشروع النهضة المصرية بأول مشروع قومي عملاق هو حفر قناة سويس ثانية، يكون من شأنها توسيع وتعميق الممر المائي ذي الأهمية الاستراتيجية العالمية وإقامة مناطق صناعية ومشروعات صناعية وتجارية على جانبي القناة، بعبارة أخرى، أن الأمر لم يعد منطقة محدودة للتعاون المصري الصيني بل على طول امتداد القناة الجديدة مع اتخاذ الفكر الاقتصادي المنفتح والرؤية المتطورة للمشروعات التي يتم إنشاؤها على ضفاف القناة، أساس للتنمية الجديدة ومنهجها المتطور.
هذه المعطيات تهيئ لانطلاقة كبرى في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين مصر والصين هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، فإنه في ظل القيادتين الجديدتين فإنني أعتقد أن هناك ثلاثة مجالات مهمة للتعاون بين الدولتين، ربما لم تحظ في الماضي بالاهتمام الكافي وهي:
الأول: التعاون العسكري بإنشاء مشروعات إنتاج عسكري أسوة بالمشروع الخاص بإنتاج طائرة هليوكوبتر K2E الذي انطلق منذ عام 1999 بعد زيارة الرئيس مبارك للصين ولكن مجال التعاون العسكري هو أعمق بكثير من هذا المشروع، فالتكنولوجيا العسكرية الصينية متقدمة ومصر تسعى لتطوير صناعاتها العسكرية ومن ثم فهي في حاجة لتعاون صيني مصري وثيق في هذا المجال، يسعي لتقديم تكنولوجيا متقدمة في مجال الصناعة العسكرية.
الثاني: التعاون في مجالات البنية الأساسية وبخاصة مجال الإسكان ومجال الطرق السريعة والقطارات والصناعات الصغيرة وهذه من المجالات التي تحتاجها مصر ولدى الصين خبرة عملية ومتميزة ما يساعد مصر على معالجة أزمة الإسكان، وطرق السكك الحديدية وتحديث القطارات ووسائل النقل المختلفة خاصة في مجال القطارات فائقة السرعة لأن القطارات المصرية أصبحت قديمة وخطوط السكك الحديدية أصبحت متهالكة، ولا تعبر عن احتياجات المجتمع الحديث، وما حدث من تطور في مصر، كذلك مسالة الصناعات الصغيرة والمتوسطة ولدى الصين خبرة كبيرة فيها للمساعدة في القضاء على الفقر ورفع مستوى الطبقة الفقيرة وتوسيع قاعدة العاملين في مجال الصناعة ومصر في حاجة ماسة لمشروعات من هذا النوع.
الثالث: مجال الاستثمار في سيناء وخاصة في الموارد الطبيعية والمعادن والرمال الخاصة مثل صناعة الزجاج وغيره من الصناعات خاصة أن سيناء مليئة بالمعادن والثروات الطبيعية التي تحمل خواص متميزة تستخدم في كثير من الصناعات، والصين لديها خبرة في هذا المجال وربما تساعد هذه الخبرة أيضاً في اكتشاف موارد نادرة جديدة في سيناء لم يتم اكتشافها بعد. باختصار إنني أجد أن الآفاق واعدة في تطوير علاقات البلدين خاصة في ظل إمكانيات واحتياجات كل طرف لما لدى الطرف الآخر. وفي ظل القيادتين الجديدتين اللتين تتسمان بالحيوية والدينامية والرؤية الاستراتيجية لمستقبل كل دولة.
ولكن التقدم وتطوير العلاقات يحتاج لدفعة قوية على مستوى القمة، ومن هنا فإنني طالبت أكثر من مرة القادة الصينيين بقيادة الرئيس شي جينبينغ ورئيس الوزراء لي كه تشيانغ، والوزراء الذين زاروا أفريقيا ودول أوروبا، بأهمية قيامهم بزيارات لمصر للتعرف على فكر القيادة المصرية الجديدة من ناحية، وتماشياً مع تقاليد العلاقات بين البلدين في زيارة قادة الصين دائماً لمصر منذ أن أقامت مصر أول دولة عربية وأفريقية علاقات مع الصين وفتحت أمامها الطريق واسعاً في أفريقيا والعالم العربي، كما أن قادة مصر حرصوا على زيارة الصين حتى إن الرئيس السابق محمد مرسي كما أشرت كانت الصين أول دولة أجنبية يزورها.
وفي نفس الوقت فإنه من المهم أيضاً أن يفكر الرئيس عبدالفتاح السيسي في زيارة الصين فهي دولة عضو دائم في مجلس الأمن، وهي دولة صديقة وترتبط مع مصر باتفاقية للعلاقات الاستراتيجية، تم التوقيع عليها من رئيسي البلدين آنذاك حسني مبارك وجيانج تزمين في إبريل 1999 ولكن هذه الاتفاقية في حاجة للتفعيل وربما زيارة من الرئيس السيسي تمثل قوة دفع كبيرة لتفعيلها وربما التوقيع على اتفاقيات جديدة تغطي المجالات التي أشرت إليها سابقاً ومن ثم يمكن إعطاء زخم جديد ودفعة مهمة وقوية أعتقد أنها ضرورية للعلاقات في هذه المرحلة المهمة من تطور البلدين ومن التغيرات المتلاحقة على الساحتين العربية والشرق آسيوية وفي الإطار الدولي أيضاً.
وإذا جاز لي - كصديق للصين ومتخصص في الدراسات الصينية وتاريخ الصين وحضارتها – فإنني أتقدم بكل تواضع بنصيحة شخصية للمسؤولين في الصين بضرورة إعادة النظر في التقليد بتقديم منحة صغيرة هي بمثابة هدية خاصة بمناسبة كل زيارة رئاسية للصين من قادة الدول النامية، إنها بمثابة منحة رمزية للدولة، وهي منحة صغيرة لا تليق بدولة بحجم ومكانة الصين أو مصر، إنه ينبغي أن تقدم المنح والمساعدات بما يتماشي مع احتياجات التمويل الحقيقي لمشروعات ذات مصداقية بين البلدين تليق بعلاقاتهما وثقلهما، وتدعم تقدم تلك العلاقات وتلمس الشعوب أثرها الفعلي.
* سفير مصر الأسبق في الصين