ظهر مصطلح النهضة تاريخياً ارتباطاً بالنهضة الأوروبية وعندما حققت تلك النهضة أهدافها في إحداث تغيير جوهري في التجمعات الأوروبية بالتخلص من الفكر القديم وما ارتبط به من النظم الإقطاعية ما ساعد على بناء دولة المؤسسات والمسؤولية الوطنية وأنهى عصراً قديماً ساده سيطرة رجال الدين من الكنيسة الكاثوليكية على النظم السياسية في أوروبا وقد برز الدور الرئيس في إحداث التغير لفئتين رئيستين هما المفكرون والشباب ولهذا عرفت النهضة الأوروبية منذ القرن السادس عشر وما بعده ظهور مفكرين كبار أمثال هيجل ومونتسيكو وفولتير وجان جاك روسو وتوماس هوبز وجون لوك كما عرفت فولتير وكارل ماركس وانجلز وعرفت علماء ومخترعين في شتى المجالات. وعرفت التطور التدريجي كما في بريطانيا وشاهدت التغير الثوري في عدد من الدول الأوروبية وبخاصة في فرنسا، وشهدت التوجه للوحدة الإيطالية والألمانية، كما شهدت الصراع والصدام بين ألمانيا وفرنسا وبين ألمانيا وأوروبا بل بين ألمانيا والعالم بالتحالف مع إيطاليا واليابان في الحربين العالميتين الأولى والثانية وأدى ذلك كله في النهاية لظهور ما أصبح يطلق عليه النظام الدولي المعاصر متمثلاً في عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة والتنظيمات الإقليمية والتي من أقدمها جامعة الدول العربية.
وهكذا توالت الظواهر الحديثة في السياسة والاقتصاد والتنظيم الدولي والقضاء الدولي وحركات الوحدة واتجاهات الانفصال، كما حدث بعد انتهاء الحرب الباردة وكان الشباب وقود هذه الثورات والتغيرات كما كانوا هم وقود الحروب والصراعات كانوا طليعة الفكر وأداة البناء. ولعلنا نتذكر ثورات الشباب في عام 1968 التي انتشرت في مختلف دول العالم بصور شتى وفي فترات متزامنة. وهذا كله ربما دفع بعض الباحثين للتنقيب والتقصي عن دور الشباب الذين هم بحق أداة التطور والتغير، كما إنهم أداة البناء والتدمير، ومن هنا كان دور الشباب الواعي المثقف في إطلاق الشعلة وأحياناً حملها، ولكن جاء بعد ذلك دور رجال الفكر والسياسة المخضرمين لمحاولة ضبط إيقاع حركات الشباب، وأحياناً سرقة جهد وفكر وحماس الشباب، كما حدث في ثورات ما يعرف بـ «الربيع العربي» وفي حالات أخرى مماثلة. وفي هذا السياق جاء كتاب «عصور نهضة أخرى: مدخل جديد إلى الأدب العالمي» الذي قام بتحريره برندا دين ستشيلد جين، وجانج جو، وساند جيلمان، وصدر الكتاب في نيويورك، وترجمته للغة العربية ونشرته عالم المعرفة الكويتية عام 2014. واستعرض الكتاب دور المفكرين والأدباء في طرح مفهوم النهضة في عدد من الدول، ومن بينها مصر والعراق والصين وإيطاليا والهند وإيرلندا والمكسيك والولايات المتحدة.
ونركز في هذا المقال على دور الشباب الصيني المثقف في إطلاق النهضة في أهم حركة قادها نخبة من المفكرين الصينيين من جيل الشباب، وأحسن الباحث الصيني جانج جو Gang Zhou الذي كتب الفصل الخاص بالصين في اختياره لعنوان فصله وتحليله وهو «النهضة الصينية: قراءة عابرة للثقافات» حيث عرض للنهضة الايطالية خاصة والأوروبية عامة ثم النهضة الأمريكية باعتبارها جميعا كانت الركائز الفكرية للنهضة الصينية التي قادها جيل الشباب المثقف في الصين وقادها أبرز قادة الفكر الصيني المعاصر «خو شى Hu Shi» الذي أطلق عليه مهندس حركة الرابع من مايو 1919 والتي كانت هي النواة التي أدت لقيام الحزب الشيوعي الصيني عام 1921، وحركة نضاله التي قادته للسلطة عام 1949. واعتمد «خوشى» على دراسة المشهد الأدبي في الصين منذ 1910 إلى 1917 أثناء دراسته في الولايات المتحدة في جامعتي كورنيل وكولومبيا، وتأثر بفكر جون ديوى في التربية، وبفكر بوركهارت في النهضة ودور الأجيال وفكر الحداثة، واعتبار عصر النهضة مرتبطاً بتنمية الفرد واكتشاف العالم والإنسان. وباستخدام المصطلحات الحديثة فإنه يمكن القول باختصار إن محاور النهضة هي الموارد البشرية والتنمية والعلوم من أجل الإنسان. وكان منطلق «خوشى» هو إصلاح اللغة وتحديثها في إطار جديد بعد التخلي عن القواعد والصياغات الكلاسيكية، وأقام أطروحته على أساس قيام النهضة الأوروبية وخروج اللغات الوطنية الأوروبية من ثياب اللغة اللاتينية كما خرجت النظم الوطنية من ثياب السياسة الدينية الكاثوليكية، ولقد كان «خوشى» أميناً مع نفسه ومع تراثه وحضارته. ولعلنا نشير إلى أن أبرز الإصلاحات، التي دعا إليها مفكر الصين ومعلمها الأول كونفوشيوس، هو إصلاح اللغة وتحديد معاني المصطلحات، وهو ما فعله بعد ذلك فلاسفة أوروبا وبخاصة المدرسة الوضعية المنطقية، والتي تبناها في مصر، باعتبارها سباقة في الفكر والسياسة العربية، الفيلسوف زكي نجيب محمود، وللأسف ساد عالمنا العربي في هذه المرحلة الفكر المشوه والمصطلحات التي تدل على عكس معانيها نتيجة سيطرة بعض الإعلاميين والسياسيين غير الواعين لحقائق السياسة والتطور السياسي وارتباطه بالمجتمع ككل. وقد أدت حركة الإصلاح الأدبي التي تبنتها حركة شباب 4 مايو 1919 في الصين لإعطاء لغة الماندرين المكانة الأولى في الصين، وكما أشرت أدت لإحداث تغيير سياسي بإنشاء الحزب الشيوعي وتطوراته، وهذا ما دعا ماوتسى تونج لإطلاق دعوته للثقافة الجديدة في عام 1938. وربما قاده إلى إطلاق ما أسماه «الثورة الثقافية البرولتيارية العظمى» والتي أحدثت كارثة في الصين المعاصرة واستمرت 10 سنوات من 66 - 1976 قلبت خلالها الأوضاع والموازين رأساً على عقب، وبدلاً من أن تؤدي للتقدم أدت إلى الفوضى بطرح شعارات بالغة التطرف، كما حدث في بعض حالات «الربيع العربي»، إذ اختلطت السياسة بالشعارات غير الواقعية التي تتناقض مع مراحل التطور الاجتماعي أو تتناقض مع حكم القانون المفروض احترامه، واستغلت قوى فوضوية حماس الشباب، وقادته وبلاد عربية كثيرة للتطرف والهلاك، تحت اسم الثورة والثورية، وحقوق الشهداء، وكلها أو معظمها كلمات حق أريد بها باطل، وهكذا بدلاً من أن يحدث التقدم والاستقرار حدث التخلف والفوضى والدمار، مما أساء إلى حركة «الربيع العربي»، ولجيل الشباب ومثقفيهم، أبلغ إساءة، وأدى لاختطاف ثوراتهم بواسطة قوى كهنوتية لا تعيش عصرها، بل تنظر للماضي. بينما عندما حدث ذلك في الصين واجهته بقوة نتيجة بروز الحزب الشيوعي ونضاله، وليس كما حدث في مصر ودول عربية، وهذا يعطينا الدرس الصحيح بضرورة عدم التطرف وأهمية انتهاج الاعتدال، وضرورة يقظة المجتمع المدني، والشعب بأسره للحفاظ على مكاسبه بدلاً من المبالغة في غير موضعها، والتطرف الذي يقود للهلاك والفوضى.
لقد كان المفكر الشاب الصيني آنذاك هو «خوشى» وزملاؤه هم الذين قادوا ثورة 4 مايو 1919 واستفادوا من تجارب نهضة أوروبا ومن فكر عمالقة المفكرين فيها وفي أمريكا، وليس من عملاء الاستخبارات الأجنبية الذين يتاجرون بمصائر الشعوب، فلم يكن جون ديوى أو جاكوب بوركهارت مستشارين لأجهزة الدولة، ولا كان مونتسكيو وجان جاك روسو وأمثالهم من فصيل كتاب السلطة والسلطان، بل كانوا أصحاب فكر ومبادئ وقيم. ومع الفارق، فلم يكن الرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، طلاب سلطة ودعاة تدمير وخراب ودمار، كما يحدث في أوطاننا الآن باسم الدين من مجموعات وعصابات القتلة والمرتزقة وعملاء الأجهزة الاستخباراتية من شتى دول العالم.
وللحديث بقية