شاء الله أن أنضم لأسرة سفارة مصر في دولة الإمارات فور استقلالها عندما تقرر إقامة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارة في أبوظبي في أوائل عام 1972، وشهدت بأم عيني كيف كانت الدولة آنذاك وكيف تطورت ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم، حيث تكررت زياراتي إلى أبوظبي ودبي في مهام علمية أو من خلال الترانزيت للسفر إلى جهات أخرى.
كما عشت ومازلت أعيش ذكريات تلك الفترة واستمرار سماتها الرئيسة، ومن هذا المنطلق أود أن أذكر أربع ملاحظات ذات صلة ودلالة بالدولة وقياداتها وشعبها.
الملاحظة الأولى: عندما وصلت إلى أبوظبي أوائل عام 1972، كان البروتوكول الإماراتي في انتظاري رغم أن درجتي آنذاك لم تكن كبيرة، ولكن ثلاثة عوامل دفعتهم لاستقبالي، أولها إنني ذهبت للانضمام للسفارة المصرية وكانت حديثة النشأة، وكنا نقيم في أحد الفنادق يسمى فندق «زاهر»، وكان آنذاك الفندق الوحيد في أبوظبي والشوارع في بداية نشأتها وكذلك الفنادق، وكان أبرز معالم المدينة هو المبنى الحضاري آنذاك لوزارة الخارجية وبعض المباني الفخمة الغربية منها وبها شقق كبيرة للسفارات، والثاني هو أن مصر كانت مبادرة ومن أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات مع الإمارات وجميع دول الخليج العربي التي تحررت وحصلت على استقلالها حديثاً، بما في ذلك البحرين وقطر وعمان، أما الكويت فكانت أسبق من ذلك بعشر سنوات. أما الاعتبار الثالث فهو الطبيعة الودية للشيخ زايد -رحمه الله- الذي اكتشفت بعد ذلك ومازلت أردد، أنه يتسم بثلاث سمات أولها الذكاء البدوي المفرط وثانيها الحس العروبي المتميز وثالثها الرغبة في التطوير السريع للدولة واستخدام عوائد النفط لتحقيق ذلك الهدف.
ولا أبالغ في القول إنني وزوجتي عشنا فترة من أسعد فترات حياتنا الدبلوماسية في أبو ظبي رغم بداية تطورها وتحديثها، ورغم أن تلك الفترة كانت قصيرة زمنياً، وكنا نسير على كورنيش الخليج وفي نهايته آنذاك كانت تقف سفن الصيد محملة بأنواع من أسماك الخليج، ومن ثم كانت الفسحة تذكرنا بالمشي على كورنيش نهر النيل في مصر.
توليت مهام قنصل مصر في الإمارات في إطار السفارة التي كان يرأسها المرحوم السفير المصري المتميز سعد مرتضى، والذي تولى مهمة أول سفير بعد ذلك في إسرائيل وقمنا بوضع اللبنات الأولى لعمل السفارة والقنصلية أو بالأحرى القسم القنصلي، وسافرت معه إلى دبي حيث استقبلنا الشيخ راشد آل مكتوم، وبعد الحديث وتبادل الآراء أوفد أحد مساعديه لمصاحبتنا للتعرف على معالم دبي، وكانت تبدو مزدهرة وبها عمران كثيرة مقارنة بمدينة أبوظبي، وكان الشيخ راشد بدوره شخصية فريدة ومتميزة؛ إنه رجل أعمال من الطراز الأول، ورجل إعمار حيث فتح دبي لكل من يرغب في الاستثمار وإقامة تجارة على أن يدفع نسبة للإمارة من عوائد عمله، وكان مهدي التاجر أول سفير للإمارات في لندن هو أحد المستشارين للشيخ راشد في جذب الاستثمارات للدولة الناشئة وبخاصة مدينة دبي.
استفسر الشيخ راشد رحمه الله عما هو مقصدنا بعد دبي فأجاب السفير سوف نسعى لزيارة باقي الإمارات، فقال كيف ستذهبون أجابه السفير بالسيارة، فعقب بأن هذا أمر صعب ومتعب، وأصدر تعليماته للشيخ محمد، وكان آنذاك بمثابة مسؤول الدفاع للإمارة، بأن يعد لنا طائرة هليوكوبتر تأخذنا لباقي الإمارات البعيدة مثل رأس الخيمة وأم القويين وعجمان، وبالفعل ركبنا في تلك الطائرة وهو ما سهل علينا السفر واستقبلنا كل أمير في إمارته، واحتفى بسفير مصر القادم من أرض النيل العظيم.
بالطبع بالنسبة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كنا نقيم في أبوظبي، أما زياراتنا لباقي الإمارات فكانت قصيرة. وكانت مصر آنذاك تواجه الاحتلال الإسرائيلي لسيناء والأراضي العربية وكل مواردها مخصصة للإعداد العسكري، وبدون أي طلب من أي مسؤول من مصر أصدر الشيخ زايد تعليماته بتخصيص مقر للسفارة المصرية وتأثيثه مجاناً، كما قدم منحة مالية للسفارة لكي تقوم بتأجير مساكن للأعضاء وتأثيثه، وهذه سابقة أعتقد أن دولاً كثيرة لا تفعلها ما عدا دول الخليج العربي في بداية استقلالها بما في ذلك البحرين وقطر آنذاك التي كانت حريصة على تسهيل مهمة الدبلوماسيين العرب بوجه عام والمصريين بوجه خاص.
لقد تعاملت كقنصل مع الجالية المصرية وقمت بتسهيل كافة طلباتهم في حدود التفسير المرن للقوانين واللوائح، وكان السفير شجاعاً ومسانداً لي بقوله «لا يهم التمسك بشكليات اللوائح وقيودها» اعمل على تطويعها لمصلحة المواطن المصري، طالما نحن نقدم المثل في الخدمة له، وفي نفس الوقت نعمل دون غرض أو هدف شخصي، وبمنتهى النزاهة والأمانة والشفافية. وفعلاً وضعنا أسساً طيبة لعمل السفارة المصرية وخففنا من معاناة المصريين، حيث لم تكن هناك سفارة قبل ذلك وكانت قضاياهم ومشاغلهم كانت كثيرة وتحتاج لحلول بأسلوب مرن.
الملاحظة الثانية: قدمت الإمارات النموذج بالنسبة لي في ثلاثة مجالات:
الأول: كيف تطورت الدولة بفعل حكمة الشيخ زايد رحمه الله بتوزيعه الكثير من عوائد النفط على المواطنين وحفزهم على بناء مساكن ومشروعات تجارية وإقامة شبكة طرق ومبانٍ ضخمة لجذب الأجانب إلى الدولة للعمل والاستثمار.
الثاني: بناء علاقة عربية متميزة مع كافة الدول العربية، وعلى الأخص مصر، وكان يشعرنا كلما ذهبت مع السفير لمقابلته إننا في بيتنا، وأن الإمارات تتذكر فضل المصريين في بناء الدولة وفي مساعدة الشعب الإماراتي قبل حقبة النفط.
الثالث: إنه عندما قطع كثير من الدول العربية العلاقات مع مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، لم تكن دول الخليج العربي راغبة في قطع العلاقات، ولكن تحت تأثير بعض المشاعر الشعبية وضغوط الدول التي أطلقت على نفسها دول الرفض وبخاصة سوريا والعراق اضطرت جميع الدول العربية لقطع العلاقات ما عدا سلطنة عمان والسودان اللتين رفضتا ذلك بإصرار ولم تستطع ضغوط العراق وسوريا وغيرها أن تغير من موقفهما.
الإمارات العربية المتحدة وكثير من دول الخليج حافظت على العلاقات بطريقة عملية، فظلت السفارات المصرية على مستوى قائم بالأعمال، وكان في معظم الأحوال دبلوماسي من درجة رفيعة كوزير مفوض أو مستشار، وكانت الجالية المصرية تحظى بالرعاية دون أي تمييز عما كانت عليه قبل قطع العلاقات.
الملاحظة الثالثة: هو ما نلمسه اليوم من حرص قادة الدولة وموقف أصحاب السمو أبناء الشيخ زايد (وفي مقدمتهم الشيخ خليفة بن زايد ومحمد بن زايد، وعبدالله بن زايد) وكذلك أبناء الشيخ راشد وعلى رأسهم الشيخ محمد بن راشد، وحاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي الذي هو خريج الجامعات المصرية، وله أيادٍ بيضاء على الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بتبرعه لبناء مقر الجمعية متميز جداً في مدينة نصر.
الملاحظة الرابعة: وهنا نسوق بعض أمور ذات صلة أولها استمرار السمات الطيبة والخصال الحميدة لقادة الإمارات الحاليين أسوة بالرعيل الأول الشيخ زايد والشيخ راشد وإخوتهما من باقي الإمارات. الثاني: المواقف الشجاعة المساندة لمصر كما يتجلى حالياً في مساندة مصر وتأييدها بعد التخلص من الحكم الإخواني غير المأسوف عليه، ويؤلمني ما يفعله الإخوان من إقامة خلايا سرية في الإمارات والإساءة لمن أحسنوا إليهم واستضافوهم في أشد ظروفهم قسوة، ولكن للأسف هي مواقف متأصلة في هذا الفكر البعيد عن الإسلام، والتخلي عن القيم الإسلامية، وعدم الاعتراف بجميل قادة وشعوب الخليج العربي في السعودية أو الإمارات والبحرين أو الكويت ومواقفهما العربية الأصيلة، ولقد كان قادة مصر يبادلون تلك الدول نفس المواقف الإيجابية بالوقوف في صف الكويت ضد غزو صدام رغم عرضه مساعدات ومزايا كثيرة للرئيس السابق حسني مبارك إذا تخلى عن الكويت ولكنه في هذه النقطة كان مصرياً أصيلاً يتمسك بالمبدأ الصحيح الذي تمسك به عبد الناصر قبله عندما وقف مع الكويت ضد مطامع عبدالكريم قاسم كذلك وقف مبارك ضد مطامع صدام حسين.
ومع الإمارات والبحرين وقفت مصر طوال تاريخها الحديث مع دول الخليج العربية ضد المطامع الإيرانية واحتلالها لجزر الإمارات أو مطامعها وأحلامها الوهمية في البحرين وضد المملكة العربية السعودية، كما في أحداث الحرم المكي من حجاج إيرانيين في الثمانينات من القرن الماضي، ونحو ذلك. تلك بعض تأملات وذكريات كنماذج للأصالة الخليجية العربية وبخاصة الإمارات والكويت والسعودية والبحرين وباقي الإمارات وبادلتهم مصر حباً بحب، وتحية للإمارات في عيدها الوطني وتهنئة لشعبها وقياداتها.