رغم تواصل النكبات والحرائق والخراب في بلاد العرب، جلّها على يد أبنائها.. وبعضها من فعل احفاد المستعمرين القدامى وورثة الامبراطوريات البائدة كالدولة العثمانية التي سامت أمتنا العذاب والقهر وعمّمت الظلم والتخلف طوال أربعة قرون، ورغم رطانة بعض الأنظمة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص وتكريس ثقافة القانون والمواطنة والمساواة، ورغم انكشاف ارتكابات وفساد معظمها وتعفنها، إلا أن كل ذلك لم يُشكّل أي نوع من الإنذار أو الخشية لدى تلك الأنظمة المستبدة التي لاتزال ترى في مؤسساتها العسكرية والأمنية الحائط الأخير (والوحيد) الذي تستند إليه في وجه مطالب الجمهور المحقة بالخبز والكرامة والحرية.
مناسبة الحديث هو التطور الذي «حصل» مع ملف دارفور السوداني، بعد أن قررت مُحققّة المحكمة الجنائية الدولية، «تعليق» الملف وإعادته إلى مجلس الأمن، الأمن الذي وجد فيه الرئيس السوداني عمر البشير فرصة لفتح قضايا وملفات عديدة خارجية وخصوصاً داخلية، والظهور بمظهر المُنتصر الذي «قهر» المجتمع الدولي وأجبره على التراجع واصفاً المحكمة بأنها «أداة من الأدوات التي هدفت إلى إذلال السودان وإخضاعه»، عازياً «فشل» المحكمة إلى (رفض الشعب السوداني تسليم «رئيسه» لمحكمة الاستعمار في لاهاي).
نحن إذا أمام المنطق إياه، الذي لا يرى الأمور إلا من خلال نظرية المؤامرة، واضعاً وزر كل ما يجري على الاستعمار وأدواته، وخصوصاً العملاء «الكثر» الذين ينتشرون في السودان، ويُسمّون أنفسهم «معارضة» لأنهم يأتون بالأموال من أديس أبابا وأوروبا وأميركا..
لم يأتِ فخامة الرئيس بأي ذِكر أو إشارة لمأساة دارفور، ولم يبد فعل الندامة أو يفتح باب المكاشفة والحوار أو يدعو إلى مراجعة شاملة تليها مصالحة عبر تشكيل لجنة وطنية جامعة لكل أطياف المجتمع السوداني وأعراقه ومناطقه الجغرافية، تقوم بمهمة كشف الحقائق والاعتذار للضحايا -من كل جانب- وتعويضهم والبدء بعهد جديد يأخذ السودان إلى ضفة أخرى، لا تبقيه أسير رطانة «ثورة الإنقاذ» التي لم تنقذه، بقدر ما عمقّت مشكلاته وسفكت المزيد من دمائه، وأفقرت السودانيين وخصوصاً تقسيم السودان وتعريض ما تبقى منه، إلى التشظي والحروب الأهلية التي تأكل الأخضر واليابس.
لم يذكر فخامته مسألة تداول السلطة على نحو سلمي، بل دعا خصومه ومنافسيه في المعارضة إلى «منازلته» في (ميدان القتال) لأنه لن يسلّم البلاد لأي شخص، إلاّ عبر صناديق الاقتراع ولم يسأل نفسه عما إذا كان هو ذاته قد تسلّم البلاد في الثلاثين من حزيران عام 1989، عبر صناديق الانتخابات أم على ظهور الدبابات؟ هارباً إلى الأمام عبر مفردات ومصطلحات غريبة تفوح منها رائحة المزاعم والأوهام، قائلاً بتفاخر يستبطن ضعفاً وارتباكاً «.. هذا البلد نحن قُمنا باستلامه، وكان لا يوجد فيه سلاح ولا ذخيرة ولا نقود ولا بترول ولا قمح، والذي يريد تغيير النظام، فبصندوق الانتخابات وعليه -أضاف- ألاّ يطبق يديه، وحن لا نأتي بها من أديس أبابا ولا من أوروبا ولا من أميركا».
وقائع الأيام السودانية منذ ثورة الإنقاذ «المجيدة» حتى الآن، تقول عكس ما قال سيادته. وما يقوله السودانيون في أرجاء بلادهم سواء قبل التقسيم أم بعده، تشي بأن الإنقاذ قد جوّفت البلاد وأفقرت شعبها وصحّرت ما تبقى من إمكانات وموارد فضلاً عن الأزمات المعيشية وانهيار المرافق والخدمات وغيرها من المآسي التي تكاد تأخذ السودان إلى لائحة الدول الفاشلة.
الوقت لم يفت بعد على استدراك الأمور واستعادة التماسك الوطني وخاصة بعد أن أُعيد ملف دارفور إلى مجلس الأمن، وبات مطلوباً الآن البحث عن صيغ إبداعية وتوافقية تتماشى مع مفاهيم العصر وتطيح تلك الهلوسات والأساطير التي حاولت ثورة الإنقاذ تكريسها أو الترويج لها في المشهد السوداني، فلم يحصد السودانيون غير البؤس والفقر والانقسام الأفقي والعمودي وارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل الأجور وسيادة الفساد في مرافق الدولة، إذ ليس صحيحاً قانونياً ووطنياً دمغ أحزاب المعارضة المتحالفة مع «الجبهة الثورية» بالعملاء والمرتزقة، فقط لأن الجبهة الثورية كانت تُقاتل إلى جانب القذافي من أجل المال أثناء انتفاضة الشعب الليبي، وأيضاً كونهم قاتلوا في الصراع الدائر في الجنوب مع الجيش الشعبي من أجل المال على ما قال البشير.
للمعارضة على تشتتها وضعفها وارتباكها، برنامجها وقراءتها ورؤيتها للسودان، تماماً كما هي حال حزب المؤتمر الوطني الحاكم الآن، الذي تَعرّض هو الآخر لانقسامات وانسحابات وعمليات فصل لبعض قادته ومؤسسيه، دون إهمال ما ألحقه ثنائي «الشيخ والجنرال» اللذين «فجّرا» الانقلاب الذي سمي ثورة الإنقاذ، من أضرار واتهامات وتشنيع.
لم تعد نظرية المؤامرة صالحة للحال السودانية، وحان الوقت لتجاوز ثقافة التخوين والتدقيق في مصطلحات وبواعث.. فقه الاستبداد ومنطقه!
- عن جريدة «الرأي» الأردنية