المبادرة التاريخية التي قادها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لم تكن مفاجأة للعرب أو حتى لمراقبي الشؤون الدولية، فهي مبادرة جاءت في الوقت الصحيح وفي ظروف فائقة الحساسية، ولبلد محوري له ثقله مثل مصر باعتبارها بيت العرب.
خادم الحرمين يدرك محورية القاهرة في لم الشمل العربي الذي أصابته شروخ جمة منذ عدة أعوام بسبب ما يسمى بـ«الربيع العربي» الذي جلب لنا ثورات مفتعلة واحتجاجات عنيفة واقتصادات مدمرة وحوّل عدم الاستقرار إلى فوضى مستقرة نعاني منها الآن.
الرياض التي تعمل من أجل العرب وللعرب لا يمكن أن تكون بعيدة عما يجري في مصر وشعبها، فمنذ اليوم الأول لما شهدته القاهرة من فوضى كانت حريصة على الإسراع في إعادة الاستقرار وعودة مصر لدورها الإقليمي النشط، فلا يمكن للنظام الإقليمي العربي المغدور أن يظل بدون مصر وأهميتها الاستراتيجية.
فرغم التحديات أمام دول الخليج العربية، والدول العربية الأخرى من الأهمية بمكان أن يتم تجاوز الخلافات سريعاً لتكون مواجهة هذه التحديات جماعية بدلاً من أن تكون المواجهة فردية ويصعب فيها مواجهة التحدي. لذلك بعد أقل من شهر على المصالحة الخليجية الشهيرة التي قادها خادم الحرمين أيضاً انتقلت الدبلوماسية السعودية للقاهرة لإنهاء مصالحة حان أوانها مع الشقيقة قطر، لأن الظروف لا تقبل مزيداً من الخلافات العربية ـ العربية، بل تتطلب المزيد من المساندة العربية.
مـــن منظـــور الجغرافيــا السياسيـــة والعلاقات الدولية، إذا كانت هناك منطقة جغرافية ملتهبة وتعاني من الفوضى وعدم الاستقرار فإن هذا الوضع من شأنه أن ينتقل سريعاً للمناطق المجاورة لتتسع الرقعة الجغرافية غير المستقرة بما يشبه قطـــع الدومينو. وعند معالجة هـــذا الوضع ينبغي المحافظة على استقرار أقل المناطق غير المستقرة، ومن ثم الانتقال إلى المناطق التي تزيد فيها حالة عدم الاستقرار تدريجياً، وتقوم العملية على إعادة زرع بؤر جغرافية مستقرة جغرافياً في أكثر من منطقة لضمان انتقال حالة الاستقرار وإنهاء الفوضى تدريجياً في الإقليم الأوسع والأشمل.
العملية بالتأكيد ليست سهلة، بل صعبة ومعقدة وقد تستغرق وقتاً طويلاً، ولكنها في رؤية خادم الحرمين الشريفين ممكنة وتحتاج إلى جهود واسعة لتنفيذها. وهذا بالفعل ما تم، حيث بدأها الملك عبدالله عندما استشعر الخطر الذي واجهته البحرين في العام 2011، وتفاعل معها بإيجابية سريعة وفي موقف تاريخي حاسم فقام بتلبية طلب حكومة البحرين بإرسال قوات درع الجزيرة لحماية المنشآت الحيوية فـي المملكـــة، وكذلـــك فعلــت بعض دول مجلــس التعاون دون تردد لتنتهي حالة عدم الاستقرار في البحرين، ويتم الانتقال لاحقاً إلى معالجة التباينات والخلافـــات الخليجيـــة ـ الخليجية قبيل قمة الدوحة الأخيرة، وبذلك تنتهي الخلافات الخليجية، ويعود الاستقرار لهذا الإقليم في النظام الإقليمي العربي، ويكون التحدي قائماً في الوسط العربي وتحديداً في مصر التي أنهت المبادرة السعودية بالأمس الخلافات العربية لتتسع رقعة المنطقة المستقرة، وتتراجع رقعة مناطق الفوضى المستقرة.
المبـــادرة السعودية ليست النهايـــة لإعادة لم الشمل العربي، بل هي البداية الحقيقية لمواجهة عربية جماعيــة للتحديــات الناجمــة وفـــي مقدمتهـــــا الإرهـــــاب والجماعـــــات المتطرفة المنتشرة في الدول العربية بمـــا فيها دول الخليج. لذلك فـــإن المواجهة المرتقبة مع هذه الجماعات ستزداد حدتها أكثر فأكثر خلال الفترة المقبلة من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ووضعها الطبيعي، فلا يمكن السكوت أو الاستمرار في تجاهل التحديات المحيطة بالعرب أو السماح بمزيد من التدخلات الإقليمية والدولية.