كان يا ما كان في قديم الزمان من يدير شؤون الدين الإسلامي الحنيف في كل أنحاء العالم الإسلامي وغيره، هم مجموعة من العلماء الأجلاء والفقهاء الكبار من كافة المذاهب الإسلامية، فكانوا بمجملهم يشكلون المرجعية الدينية للمسلمين، وكانوا يتحركون وفق قواعد وتشريعات واضحة وصريحة تنتهي باحترام الإنسان وكل الأديان، وكانوا فيما مضى من الزمان الحصن الحصين من كل فتنة ممكنة أو من كل شرر متطاير يمكن أن ينال من وحدة أمتنا وعزتها.
أما اليوم فكل من حفظ بضع آيات من القرآن الحكيم والقليل من الأحاديث الصحيحة والموضوعة، أو قام بإطلاق لحيته وتزين بالزي العلمائي المعتاد، أصبح عالماً ومفتياً وربما قائداً للأمة، لأننا باختصار نعيش في زمن المهازل والعجائب، فكل شيء يبدو أمامنا رخيصاً جداً، بدءاً من الفن والفنانين وانتهاء بعلماء الدين!
إن مصيبة المصائب لدينا هو في وجود كميات فائضة من النماذج العلمائية غير المؤهلة لإدارة شؤون الدين، حيث إن كل من تعلم بعض الأحكام الشرعية من المراهقين أو المنتفعين أو المتسلقين أصبح عالماً لا يشق له غبار، واستطاع أن يفتي الناس في أمور دينهم ودنياهم، بل باستطاعة هؤلاء «الكتاتيب» أن يفتوا في دماء المسلمين وفي أعراضهم وأموالهم ومستقبلهم، مما شكل وجودهم خطراً حقيقياً على الإسلام وأهله.
حين ينقلب عالم الدين إلى مهرج أو مخرب أو محرض على الفتن فإنه يشكل بذلك خطراً رهيباً على أوضاع المسلمين التي هي في الأساس أوضاع قلقة، بفعل التجاذبات السياسية الحاصلة في كل العالم، وبما أن الحصول على مرتبة «عالم دين» أصبحت في متناول الجميع، ومن كل المذاهب الإسلامية دون استثناء، وجدنا مدى ضعف المسلمين ومقدار انحطاطهم في كثير من جوانب الحياة الفاعلة، وكأن الأعداد الهائلة من علماء الدين باتت تشكل عبئاً مريراً على الواقع الإسلامي، وهذا ما يمكن لنا تلمسه من خلال المردودات السيئة للمجاميع العلمائية المعاصرة في كل أنحاء العالم.
بالأمس كان لعلماء الدين دور تنويري مشبع بالتنوع والتجديد واحترام الآخر، وكان لهم دور كبير في صيانة مكتسبات الأمة ولم شملهم ووحدة كلمتهم، كما كانوا درعاً حصيناً لكل الأمراض التي تعتري واقعنا، وهم بذلك يشكلون حائط صد لكل الخرافات والخزعبلات والانفلاتات الجاهلية، فكانوا يحتكمون إلى كتاب الله وإلى العلم والعقل.
أما اليوم فإن ما نتلمسه في الكثير من علماء عصرنا الراهن هو أنهم أصبحوا يشكلون رقماً كبيراً خالياً من «الكيف» والجوهر، بل إنهم في الواقع، باتوا يشكلون خطراً محدقاً بالدين عبر أفكار ومناهج منحرفة يسوقونها دائماً وأبداً في أوساط شبابنا على أنها مصاديق لدخول الجنة، وهم لا غيرهم من يحث الصغار على تخريب مستقبلهم العلمي وتحريضهم على المزيد من الكراهية والاقتتال والتجميع والتحشيد لكافة أنواع الفتن، ومن ثم ابتعاثهم للموت الرخيص بدلاً من ابتعاثهم لطلب العلم والمعرفة، وبهذا فإن ما نجده اليوم من مآسٍ حقيقية في واقعنا المعاصر تعود في جزء كبير منها للواقع المنحرف لمن يسمون أنفسهم زوراً «علماء دين»، وممن يتكسبون بالدين أو يتاجرون بمعتنقيه، خصوصاً من صغارنا الذين علمناهم بشكل أهوج منذ نعومة أظفارهم أن رجل الدين هو ظل الله في أرضه وسمائه مهما انحرف ومهما فسد، إنها القداسة التي أسقطتنا في عمق الوحل بفعل ثقافة تعيسة ترتكز على التقديس الأعمى، فكانت النتيجة كارثية بامتياز. بالأمس كان لدينا علماء حقيقيون أما اليوم فإن لدينا الكثير من العملاء من العلماء الذين يخدمون المستعمرين أكثر مما يخدمهم جنودهم في ساحات المعارك.