حين كان الجدل يدور في «حوار التوافق الوطني» على موضوع تمثيل الإرادة الشعبية في التشكيل الحكومي، وقفنا بشدة اعتراضاً على مبدأ عرض التشكيل الحكومي بأسماء الوزراء على الغرفة المنتخبة كمعيار لنيل الثقة النيابية، لأننا لا ننطلق من ورق ومثاليات بل ننطلق من واقع سيفرز محاصصة طائفية في التشكيل لا ننجز من ورائها شيئاً سوى تقسيم المناصب الحكومية بين الجمعيات السياسية، ولم يكن اعتراضنا على تمثيل الإرادة الشعبية في التشكيل من حيث المبدأ، وبالتأكيد لم يكن انطلاق رفضنا هو عدم الاهتمام بتحسين أداء الحكومة والارتقاء بها خدمة للصالح العام.
لذا كان طرح عرض «البرامج» لا الأشخاص على السلطة المنتخبة بديلاً واقعياً يحقق الهدفين اللذين نسعى لهما جميعاً، يحقق تمثيل الإرادة الشعبية ويحقق تحسين جودة أداء الحكومات من خلال الرقابة المسبقة على برنامجها والتي تحتاجها لنيل الثقة.
واليوم حين جاء وقت تنفيذ التعديل الدستوري وتنفيذ ما جاء به من تمثيل الإرادة الشعبية في التشكيل الحكومي وتحسين جودة أدائها، ارتأت الحكومة أن تؤخر وتؤجل عرض البرامج التفصيلية للوزارات رغم أنها بحوزتها وارتأت تأخير عرض مؤشرات قياس تلك البرامج رغم أنها بحوزتها أيضاً إلى حين عرض الميزانية، مكتفية بعرض رؤيتها للبرنامج الحكومي كمعيار لنيل الثقة.
الحكومة قبلت أن تعرض نفسها لجدل لا طائل منه أضاع الوقت والجهد خوفاً من مجهول لم تحدد بعد تبعاته، خوفها من إلزام الحكومات القادمة «بمؤشرات القياس» قد تعجز عن تنفيذها وجعل تلك المؤشرات رهناً بنيل الثقة من عدمها دفعها إلى أن تقدم رؤية عمومية تكتفي بها كقاعدة تنال بها الحكومات اللاحقة الثقة النيابية، بحيث لا يختلف أحد على «رؤية» طموحة وجيدة ولكن قد يختلف اثنان على التفاصيل والحيثيات والمؤشرات.
تسبب هذا القرار بتعريض ما قدمته الحكومة للمجلس النيابي على أنه «برنامج» إلى العديد من الانتقادات من المراقبين، في حين أنها لو قدمت «الباكج» الكامل الموجود بحوزتها قد يكون من أفضل البرامج الحكومية على الإطلاق، وبدلاً من أن ينصب الجدل العام الآن حول تفاصيل البرنامج في ما يخدم الصالح العام، بقينا في الخانة الأولى نعرف ما هو «البرنامج» وهل ما قدمته لا يعدو عن كونه «رؤية» أم يرقى إلى مفهوم «البرنامج».
قد يكون الخيار الذي توجهت له الحكومة خياراً مريحاً لها ولجميع الحكومات اللاحقة من بعدها إن أقر وقبل به المجلس النيابي، ولكن هل يساعد هذا الخيار الحكومة على تحسين أدائها وتجويده؟ وهو الهدف الذي من أجله عدل الدستور وأضيفت المادة 46، ألا ترى الحكومة أن نيل الثقة بها حين يكون وفقاً لمعيار برامج وزاراتها التفصيلية يجعل من الإرادة الشعبية شريكاً لها في تنفيذ وتطبيق هذه البرامج مما يخفف عنها عبء الرقابة اللاحقة؟ ألا ترى أن نيل الثقة بناء على برنامجها التفصيلي ومؤشرات القياس يحمل الإرادة الشعبية معها المسؤولية المشتركة في نجاح أو فشل هذه البرامج وتلك المؤشرات؟ ألا ترى الحكومة أن نيل الثقة بناء على تفاصيل البرامج الوزارية أداة محفزة وملزمة لها لتحسين أدائها؟ هل المطلوب هو إيجاد مخارج تنقذ الحكومة من التزاماتها؟ أم المطلوب جعل التحديات التي ستكون أمام الحكومة هي تحديات أمام الإرادة الشعبية أيضاً؟
هذه هي الأسئلة التي يجب أن يحدد على إثرها أي الخيارين أفضل، يجب أن نذكر أنفسنا بالهدف من هذا التعديل قبل أن نسترسل في جدل عقيم يستنزف ما تبقى لنا من وقت.
ملاحظة أخيرة:
لا يزايد أحد على أن الهدف من هذا الجدل هو حرصنا أن يرى العالم كله ميزة وجودة وأفضلية البرنامج الذي تقدمه حكومة مملكة البحرين، على أنه برنامج كامل الدسم، برنامج حافل بالتفاصيل والمؤشرات على درجة كبيرة من الشفافية وقبول التحديات، برنامج استفاد من الخبرة الإدارية التراكمية لحكومة لها الأسبقية على كل دول الخليج كنظام إداري علمهم فن الإدارة وكان قدوة ونموذجاً، هذا الجدل هو لتحسين الأداء لا للمناكفة أو الاستعراض ولا لمصلحة خاصة، بل هو حرص على ألا نضطر أن نخسر المقارنة حين يعرض «البرنامج الحكومي البحريني» مع «البرنامج الحكومي لدول خليجية أخرى» ويفقد البرنامج البحريني مكانته لخلوه من المقومات الأساسية.