فقدت الأمتان العربية والإسلامية، بل فقد العالم بأسره، رجلاً كان فخراً للرجال بمعنى الرجولة في القول والعمل، وقائداً كان مقداماً، وبطلاً من أبطال الشجاعة الأدبية فضلاً عن الشجاعة المادية، والأولى في رأيي المتواضع أهم وأبقى. وقد اهتم الراحل الكريم بفلسفة الحوار العقلاني بين الطوائف والعقائد والثقافات، ومن هنا دعا لعقد المؤتمر الأول في الرياض والثاني في نيويورك في مبادرة للمملكة في إطار الأمم المتحدة، ثم أقيم بعد ذلك مركز الحوار في فيينا، وقد كان المغفور له بإذن الله داعية للحوار عن إيمان صادق وعقيدة راسخة باعتبار الحوار هو جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية السمحة، كما جاء في الدين الإسلامي الحنيف.
آمن العاهل الراحل بأن الدين الذي نزل على سيد البشرية من عند الله هو دين واحد، وهو شرع الله تعالى ملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت فإن الوحدة هي الأساس، وأن الاختلاف في الشعائر لا ينبغي أن يؤثر فيها، وهنا نجد الدعوة للوحدة واضحة وضوح الشمس، والتأكيد بأن اختلاف الشعائر لا يجب أن يترتب عليه اختلاف أو تصارع بين أبناء الدين الواحد الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، فما بالك بوحدة الشعائر واختلاف الطوائف، فهذا أبسط ولا ينبغي أن يؤثر في وحدة الشعوب وتكاتفها.
كان الراحل الكريم عروبياً شهماً وقوياً شامخاً، دافع عن عروبة البحرين وأمنها، كما انحاز لشعب مصر إبان ثورته في 30 يونيو مؤيداً لها وناصراً لشعبها وداعماً لجيشها ومسانداً لقيادتها المدنية والعسكرية، ورافضاً الانصياع لرغبة القوى العظمي وانتقاداتها بالنسبة لموقفه من البحرين أو من مصر، ورغم اختلاف الحالتين فإنه كان يشعر بنبض الشعب في كلا البلدين وحاجتهم للحماية في لحظة فارقة من تاريخ كل منهما، ولهذا لم يتردد للحظة واحدة.
من الصعب التحدث عن مناقب الفقيد وهي كثيرة، ولست مؤهلاً بالتعريف عنها تفصيلاً، ولكنني أشير لتجربة شخصية فقط، هي لقاءاتي مع جلالته وهي ثلاث مرات في مناسبات صينية وعربية وإسلامية ويابانية.
المرة الأولى عندما زار الصين، وكان ولياً للعهد، حيث كنت آنذاك سفيراً لمصر في الصين، واجتمع مع السفراء العرب وحملنا رسالتين مهمتين، الأولى هي ضرورة العمل بجد ونشاط من أجل مصلحة بلد كل سفير منا، وفي نفس الوقت من أجل مصلحة العروبة والإسلام، والثانية أهمية العلاقات العربية الصينية وضرورة العمل على تطويرها، وهذا كله يعكس رؤية جلالته الثاقبة والبعيدة النظر في الاهتمام، بل والمبادرة، في التوجه شرقاً.
المرة الثانية في الرياض عندما عقد اجتماع للحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، وشاركت فيه بصفتي متخصصاً في الحضارة الصينية، ومن الملفت للنظر آنذاك أن ثلاث جهات رشحتني للمشاركة هي مصر والجامعة العربية والبحرين، وكنت آنذاك مستشاراً للدراسات الاستراتيجية بمركز البحرين للدراسات والبحوث، وكان حلماً أن نلتقي كخبراء مع عاهل أكبر دولة خليجية ومن الدول العشرين في المنظومة الاقتصادية العالمية، ولكن الحلم سرعان ما تحول إلى حقيقة عندما حضر للندوة مبعوث من الديوان الملكي يبلغنا بأن عاهل البلاد سوف يلتقي بالوفود، لكن فريقاً منا شعر بعدم الارتياح وهن المشاركات من النساء، ولما بلغ جلالته ذلك أرسل مبعوثاً ينقل لهم البهجة بلقاء جلالته، وفعلاً حضرنا جميعاً اللقاء، وحرص جلالته أن يظل واقفاً وأن يصافحنا فرداً فرداً بلا استثناء والتحدث إلينا عن الارتباط الحضاري والتاريخي بين الحضارتين العربية والإسلامية والتراث المشترك بينهما. أما اللقاء الثالث فكان عندما شاركت أيضاً في الدورة السادسة للحوار الياباني الإسلامي الذي عقد دورته في الرياض، والتقي بنا خادم الحرمين الشريفين وأفضي لنا بسر لم يكن أبلغ به أحد علانية، وهو أن جلالته استشار علماء المملكة العربية السعودية في فكرة راودته، وهي الدعوة لحوار عالمي بين أصحاب الحضارات والثقافات والأديان والعقائد، فأبدوا تأييدهم للفكرة وشجعوه على المبادرة بطرحها، وفعلاً طرحها جلالته، وفي غضون ثلاثة أشهر من لقائنا كانت الفكرة قد وضعت موضع التنفيذ، وعقد مؤتمر للطوائف الإسلامية في الرياض ثم مؤتمر لكافة أصحاب العقائد والأديان في نيويورك في إطار الأمم المتحدة، وصدر قرار بناء على مبادرة جلالته بإنشاء وتمويل مركز للحوار في فيينا.
ينبغي أن نشير بأن الحوار الياباني الإسلامي كان بمبادرة كريمة من وزير خارجية البحرين آنذاك سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة مع نظيره الياباني الذي كان يزور البحرين ضمن جولة خليجية، وعقدت الدورة الأولى في البحرين على مستوى المثقفين وبعض المسؤولين، وشاركت في تلك الدورة، حيث كنت مستشاراً لرئيس جامعة البحرين آنذاك، بينما شاركت في الدورات التالية للحوار بصفتي مستشاراً للدراسات الاستراتيجية وحوار الحضارات في مركز البحرين للدراسات والبحوث.
ختاماً نقول إن بيت الشعر التالي يعبر تمام التعبير عن الدور البارز والدائم لجلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله-:
لقد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم بين الناس أموات
رحمك الله رحمة واسعة يا عبدالله بن عبدالعزيــز، أيها الراحل الكريم عاهل المملكة العربية السعودية السابق، وتغمدك الله في كرمه وإحسانه وفضله، وأعان الله الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهو من قراء وحفظة القرآن الكريم بصوت جميل وممتع يشع روحانية، وحمى الله المملكة العربية السعودية وكافة بلاد العرب والمسلمين.