تياران سياسيان رئيسان في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية يسعدهما التشكيك بأي نية حسنة، والتقليل من شأن أي خطوة بناءة تتخذها أنظمة الحكم التقليدية في الشرق الأوسط، هما اليمين المحافظ المتشدد واليسار الراديكالي.
اليمين المتشدّد - في العادة - معادٍ قلباً وقالباً ليس للعرب فحسب، بل لمعظم دول العالم الثالث. وهو يراها إما عالة على ازدهاره، أو مرتعاً للراديكالية التي تشكل خطراً على مصالحه، أو حالات «تخرج على النص» الذي يريحه عندما تختار شق طريقها بمعزل عن إرادته وإملاءاته.
أما اليسار الراديكالي فلقد اختار سلفاً معاييره لقبول الآخر ورفضه، ومن ثم غدت نظرته لأي حدث أو أي ظاهرة مصبوغة مسبقاً بانحياز فطري يرفض الجدل والمراجعة. ومن ثَم تغدو الإدانة على الشبهة عادة.. ويصبح التجريم ولو بـ«الشراكة» تقليداً راسخاً.
خلال الأسبوع الماضي عاشت المملكة العربية السعودية مفصلاً مهماً في تاريخها السياسي المعاصر، مع وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز وتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم خلفاً له. ومع هذين الحدثين جرى تثبيت الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد بناء على تعيينه من قبل ولياً لولي العهد، وتعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد في تأكيد للسابقة المهمة في سلاسة التعيين والانتقال. وأخيراً لا آخراً تعيين الأمير محمد بن سلمان رئيساً للديوان الملكي ووزيراً للدفاع.
وفي هذا السياق، لا بد من القول إن بعض المشكّكين من غلاة اليمين واليسار في الغرب كانوا قد طرحوا تساؤلات كثيرة غير بريئة القصد خلال السنوات الماضية عن المستقبل، لكن العارفين بطبيعة الحكم السعودي كانوا مطمئنين إلى ثبات المعايير والضوابط والأولويات... التي لا يود أن يفهمها معسكر التشكيكيين. وحقاً، بسرعة لافتة، وضعت الأمور في نصابها بلا تعقيدات. بل لقد خطت السعودية الخطوة الأولى باتجاه «الجيل الثالث»، أو أحفاد الملك المؤسس، بسلاسة وثقة كاملتين.
مستوى المشاركة العالمية في أيام تقديم التعازي بالملك عبد الله، رحمه الله، جاء لافتاً. وكان أكثر من لافت تغيير البيت الأبيض مستوى تمثيل الولايات المتحدة بعد قرار الرئيس باراك أوباما اختصار زيارته المبرمجة للهند. ومن ثم ضم الوفد الرسمي الأميركي شخصيات بارزة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ما يؤكد أن العلاقات الأمريكية - السعودية لا تُختصَر بسياسة إدارة بعينها، بل هي علاقة استراتيجية عميقة وبعيدة المدى تخدم مصلحة البلدين. وهذا ما يمكن أن يقرأه المحلّل الجاد في ظل الأجواء الإقليمية الملبّدة بالغيوم والإشارات الملتبسة من إدارة أوباما حيال عدة قضايا شرق أوسطية شائكة، في مقدّمها أطماع إيران وتمدّدها وملفها النووي، وظاهرة الإرهاب، وتعثّر مسار السلام العربي - الإسرائيلي.
والحقيقة أنه أتيحت للولايات المتحدة، ومن خلفها المجتمع الدولي، قبل بضع سنوات، فرصة طيبة لتحاشي الوصول إلى الوضع المعقّد الذي نراه اليوم على امتداد منطقة الشرق الأوسط وبعض أجزاء شمال إفريقيا.
يومذاك مع بدايات «الربيع العربي» تبيّن أن التحسّب الغربي للتغيير الحاصل كان دون المستوى المأمول. كذلك يزعم البعض أنه لم تكن لدى واشنطن، بالذات، «خطة ب» في حال اختلال عملية التغيير، بدليل التداعيات الكارثية لما جرى عام 2011 في كل من ليبيا واليمن وسوريا.
الرئيس أوباما خلال مقابلته الصحافية الشهيرة مع الصحافي والكاتب جيفري غولدبرغ غمز من قناة «أصدقاء» الولايات المتحدة بتلميحه أنهم بوغتوا بأحداث 2011، وهو ربما كان محقّاً في هذا، ولكن عنصر المباغتة أو المفاجأة يشكّل عذراً تخفيفياً للأصدقاء.. تماماً بعكس واشنطن المفترض أنها ترصد الاحتقانات السياسية والتوترات الأمنية في المنطقة منذ عقود. لكن ما يُلاحظ راهناً أن واشنطن تبدو وكأنها تتعامل بـ«ردّ الفعل» لا «الفعل»، بدليل تركها أمر الوضع في سوريا لموسكو كي تتعامل معه على هواها ووفق أولوياتها.
ونتيجة لرفض واشنطن التدخل في الوقت المناسب بالحزم المناسب في سوريا، أتيح للجماعات الجهادية والتكفيرية المتطرّفة الآتية من كل أنحاء العالم حرف الثورة السلمية عن مسارها، وتحويل البلاد إلى «مسرح عمليات» لها.
في هذه الأثناء، مع فوز «الإصلاحي» حسن روحاني برئاسة إيران، التقت مصالح غلاة اليمين المحافظ المعادي للعرب واليسار الراديكالي المناوئ لقيادات دول مجلس التعاون الخليجي على إعادة تعريف ما يوصف بـ«التطرّف» الإسلامي. وأخذ البعض يروّج لإعادة تأهيل إيران كحليف مضمون في الشرق الأوسط. وبالأمس، قرأت مقالة في إحدى الصحف البريطانية ناقش كاتبها - وهو دبلوماسي متقاعد - ما إذا كان الوقت قد حان للتعامل مع إيران كحليف والسعودية كعدوّ!!
لتبرير الوصول إلى هذه الحصيلة العجيبة يزعم الكاتب ببساطة أن «التطرّف السنّي هو ما يثير الفتنة بين السنة والشيعة». ويضيف أن «وقوفنا مع أحد طرفي نزاع طائفي في الشرق الأوسط سيخلّف تبعات كارثية على الاستقرار الإقليمي وعلى مصالحنا أيضاً». والغريب أن هذه الكلمات جاءت بعد إقراره بأن «داعش» ظهرت وقويت لأن الغرب هو من خذل السنة الذين واجهوا «القاعدة» في العراق منذ 2007.
ما تناساه الكاتب أن التطرّف ليس حكراً على مذهب، وحتماً ليس حكراً على دين. ولئن كان هناك متطرّفون سنة فإن العراق وسوريا ولبنان واليمن شهدت وتشهد نماذج من تطرّف مضاد في فكره وأدبياته وأعماله. وبريطانيا والولايات المتحدة تتذكران، لا شك، من كان وراء خطف الرهائن الأجانب الـ96 في لبنان بين 1982 و1992.
إن التغاضي عن مخطط إيران «الإصلاحي» التوسعي - كما يريد البعض في واشنطن ولندن - سيشكل أكبر خدمة لنشر التطرّف السنّي، في حين ما تحتاجه المنطقة اليوم دعم الاعتدال بكل السبل والوسائل.
وحقاً، عنوان ما حصل في الرياض قبل أيام كان التأكيد على تثبيت الاستقرار وتشجيع الاعتدال والالتزام بمكافحة الإرهاب.
هذا ما يستحق التحالف معه وتعضيده... لا الالتفاف عليه والرهان على خصومه.
* نقلا عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية