أحدثت تكنولوجيا الاتصالات الحديثة ثورة في التواصل «والمراقبة والمحاسبة» لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وقد تجاوزنا مفهوم أن العالم صار قرية صغيرة إلى مفهوم أن العالم صار شاشة صغيرة لا يتجاوز حجم كيف اليد الواحدة. ولقد صار الآخرون في متناول ضغطة أصبع وإن فصلتنا عنهم مئات الأميال.
في السابق كانت علاقاتنا بالآخرين تفتر بمجرد قلة التواصل، خصوصاً الاتصال الهاتفي، وكانت تنقطع بمجرد ضياع رقم هاتف الآخرين منا. اليوم صار صعباً أن يضيع عنوان أحدنا، إن فقدت رقم هاتفه ستجده في سجل أصدقائك على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي. ولسنا بحاجة إلى تكبد تكاليف المبالغ المرتفعة لقيمة الاتصالات الخارجية؛ صارت الاتصالات في حد ذاتها مجانية. ولسنا مضطرين لتوخي الأوقات المناسبة للاتصال؛ فخدمات الدردشة المكتوبة عبر الواتساب خرقت حاجز الوقت. وصار بإمكان الآخرين تتبع أخبارنا دون أن نبلغهم؛ لأن واجهة الحساب «البروفايل» ستحتوي آخر تحديثات صورنا التي تدل على حالنا وترحالنا وعبارات دالة على مناسباتنا.
البعض يحب ترك بصمته في التواصل دون أن يمتلك أحياناً، المشاعر الخاصة بذلك. تثبيت البصمة شيء، والتعبير عن إحساس خاص شيء آخر مختلف. كم كبير جداً من «البرودكاست» نتلقاه يومياً، عشرات من مجموعات الاتصال التي يضيفنا الآخرون إليها في كل مناسبة. يندر أن يصمت الهاتف ساعة دون أن يصلك «واتساب» ليس موجهاً لك أنت بصفة شخصية، ولكنه موجه للجميع عبر مجموعات خاصة يقصد صاحبها تحيتك، أنت وجميع أصحابه، صباح مساء، ثم اكتساب الأجر عبر إرسال دعاء أو موعظة دينية، ثم الترفيه والتسلية بإرسال مقطع فيديو ممتع حاز على إعجابه. لو فرزنا كم الرسائل التي تصلنا وتحمل مضموناً يستدعي فتحها وكم الرسائل التي تدل على أن صاحبها يذكرك بنفسه، وقد يكون لا يذكرك أنت تحديداً، لوجدنا الفرق شاسعاً.
هذه الثقافة التي ثبتت العلاقات بشكل يصعب انقطاعه كما في السابق، فتحت الباب أما الإزعاج المتكرر وأمام سوء الظن أحياناً. فقد تكون في شغل ملح، أو في مزاج سيئ فتتجاهل الرد على الرسائل التي اطلعت عليها. لكن خدمة كشف القراءة التي يصر برنامج «الواتساب» على إرغام الجميع بمعرفتها، تتيح للطرف الآخر محاسبتك عن سبب عدم الرد، أو التعبير عن اندهاشه لاطلاعك على الرسالة في وقت متأخر والناس نيام. وقد يعطي أحدهم نفسه الحق في سؤالك: من ذا الذي كنت تراسله في الثالثة فجراً؟!!.
سوف نحتاج لسنوات جديدة قادمة كي نتخلص من ثقافة الفضول التي غرسها فينا برنامج «الواتساب» وغيره من برامج التواصل الأخرى. سنحتاج وقتاً لنقدر أن رسالتنا قد لا تستدعي الرد، وأن الطرف الآخر قد لا يكون مهيئاً ليرد علينا بصورة تحمل عبارات «صباح النور» على رسائلنا اليومية التي تحمل عبارة «صباح الخير».