تفند التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة الخلاصة التي استنتجها «فوكوياما» في بداية التسعينات على إثر انهيار الشيوعية، والتي مفادها بأنه لم يعد هناك أنظمة اقتصادية أو سياسية لإدارة شؤون العالم، عدا عن الرأسمالية والديمقراطية، وقد ظل هذا الاستنتاج متوقعاً إلى حد كبير؛ إلى أن حلت بالعالم الأزمة المالية في عام 2008.
منذ ذلك التاريخ والعالم يمر بتحولات اقتصادية وسياسية على إثر ما ترتب على الأزمة المالية من تداعيات على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ فعلى الصعيد الاقتصادي وجدنا ردات فعل قوية ومهمة تستهدف ممارسات الجشع والتهور والفساد وعدم الشفافية وضعف الحوكمة، والتي كشفت عنها تداعيات الأزمة المالية، خصوصاً في القطاع المالي والمصرفي، وقد تم على إثر ذلك وضع قوانين جديدة إضافية تتحكم أكثر في مثل هذه السلوكيات، بخاصة ضعف الحوكمة ومحاربة الفساد وتضارب المصالح وغيرها، والتي شابت الأنظمة الرأسمالية حتى وقوع الأزمة المالية.
على صعيد آخر؛ اضطرت السلطات المعنية لزيادة التدخل لتصويب مسار اقتصاديات السوق، وبعكس المسلمات المتعارف عليها بعدم التدخل في قوى السوق؛ فقد انتهجت السلطات المعنية مجموعة من الإجراءات استهدفت ما ترتب على الأزمة المالية من ضعف النمو والكساد وارتفاع معدلات البطالة والتفاوت الكبير في توزيع الدخل، بل إن بعض السلطات ذهبت إلى أبعد من ذلك بانتهاج سياسات نقدية غير معتادة؛ مثل التيسير الكمي، والتي أدت إلى ضعف أسعار الفائدة إلى الصفر، وهو الأمر الذي، وإن استهدف النهوض بالنمو الاقتصادي، إلا أنه حسبما يبدو يتناقض مع المبادئ الرئيسة للرأسمالية، والتي تقوم على حصول المستثمر على عائد مقبول، هذا فضلاً عن أن مثل هذه السياسات تتعارض مع كثير من المسلمات الأخرى، والتي تقضي بألا تعمل السياسة النقدية على تمويل عجوزات الميزانية.
في الواقع إن هناك أموراً ومسلمات كثيرة قد تغيرت، ولم تعد الرأسمالية على إثرها كما تصورها آدم سميث؛ بأن قوى السوق تسيرها أياد خفية.
الوضع لا يقتصر فقط على الرأسمالية التي تمر، كما نشهد، بمتغيرات مهمة وكبيرة، ولكن الديمقراطية تشهد كذلك متغيرات لا تقل أهمية.
إن تداعيات الأزمة المالية وما خلفته من بطالة متفشية وتفاوت كبير في توزيع الثروة أدت إلى مزيد من التطرف والراديكالية تجاه سياسات الحكومات القائمة كما نشهده الآن في الدول الأوروبية على إثر صعود شعبية الأحزاب اليسارية واليمينية المتطرفة، سواء في اليونان أو في إسبانيا أو في فرنسا أو حتى في ألمانيا.
إن نتائج انتخابات اليونان الأخيرة تغلب بدون شك المعادلة المعتادة في النظم السياسية الأوروبية، فمجيء حزب يساري في اليونان إلى الحكم يشكل تحدياً كبيراً للثقافة السياسية الأوروبية، حيث إن هذا الحزب وإن كان يشكل تناقضاً مع الأحزاب السياسية في المجموعة الأوروبية؛ إلا أنه أتى للحكم وفقاً للعبة الديمقراطية، وإذا ما استطاع الحزب اليساري اليوناني إخضاع المجموعة الأوروبية لشروطه بإعفائه من ديونه والتخلص من سياسة التقشف المفروضة عليه؛ فإن ذلك سوف يشجع أحزاباً أوروبية متطرفة أخرى سواءً في إسبانيا أو البرتغال أو في فرنسا أو إيطاليا لانتهاج نفس السلوك، وبالتالي تكون المجموعة الأوروبية في ورطة كبيرة قد تؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.
إن شعبية الأحزاب المتطرفة في أوروبا، سواءً يسارية أو يمينية، تزداد بشكل كبير، وبالتالي فاحتمال وصولها للسلطة وفقاً للعبة الديمقراطية لا يجب أن يكون مستغرباً.
السؤال المطروح على ضوء هذه التطورات سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي هو؛ هل نظرية «فوكوياما» حول نهاية التاريخ بالنسبة للرأسمالية والديمقراطية مازالت صالحة أم أن الأمر أصبح الآن بحاجة إلى إعادة نظر؟
الرئيس السابق لصندوق النقد العربي