الشماعة التي يعلق عليها الكثيرون فظاعات الجماعات الإرهابية هي اتهامها بأنها صنيعة صهيونية وغربية تم اختلاقها لتشويه صورة الإسلام ومن ثم القضاء على المسلمين. وهذه نظرية ليست صحيحة ألبتة. بل إن كل الجماعات الإرهابية هي صنيعة عربية إسلامية أصيلة يتم استخدامها من جميع الأطراف ثم يصدر أمر بالتخلص منها. ولكن لم يتمكن أحد من التخلص من أي منها لأن جذورها قد صارت عميقة وعريقة في مجتمعنا وثقافتنا. وأغنى تربة غذت تلك الجماعات هي تربة التبريرات التي نتذرع بها بكل سماجة للقبول بكل تلك الممارسات الوحشية قبل أن ننقلب عليها في تناقض فاضح ينم عن الفراغ الفكري الذي قد غرقنا فيه.
لقد مهدنا لجريمة حرق الشهيد معاذ الكساسبة حياً، وهي جريمة تاريخية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي؛ حين قبلنا بأن تتحول الاحتجاجات السلمية في سوريا إلى ثورة يقودها متطرفون أجانب قادمون من الشيشان والصومال ودول الخليج والدول الأوروبية وكل بقاع الدنيا. مهدنا لجريمة حرق معاذ الكساسبة حين اشتركنا في جريمة الدعوة للجهاد في سوريا ضد نظامها الحاكم. وحولنا فريضة الجهاد إلى «خرافات» تتأرجح كالسكرى بين دعوات الديمقراطية ودعوات تشكيل دولة الخلافة الإسلامية. ويوم بررنا لأحد المتطرفين المنحرفين أكل قلب جندي سوري فقد كنا نمهد لحرق الكساسبة حياً. فما الفرق بين من مزق جسداً بشرياً وأكل لحماً إنسياً مازال نبض الدم فيه حاراً، ومن حرق بشراً في قفص وعاينه حتى تفحم وبث صوره في الفضاء شامتاً سعيداً؟!!
حين اقتنعنا بأن الرئيس الليبي السابق يستحق أن يموت بأيدي متطرفين منحرفين من شعبه بتلك الطريقة البشعة ويسبق قتله تحرش جنسي قبيح به وهو أسير دام، فقد كنا نمهد لحرق الأسير معاذ الكساسبة. وحين فسرنا أن حادثة كرداسة في مصر هي ثورة إسلامية ضد الانقلاب العسكري الذي قاده عبدالفتاح السيسي، فقد كنا نمهد لحرق معاذ الكساسبة. وحادثة كرداسة هي جريمة تم فيها سحل مجموعة من رجال الأمن في شوارع قرية كرداسة وهم أحياء وعرايا حتى الموت. رافق تلك الأحداث التي واكبت سقوط نظام الإخوان في مصر حرق للمرافق المصرية والكنائس القبطية. ومنها امتد الحريق إلى جسد معاذ الكساسبة.
أنكر الكثيرون أن يكون تفجير مستشفى العرضي العسكري بصنعاء قد تم بأيدي عناصر القاعدة وألقيت التهم على الصهيونية العالمية والمؤامرة الغربية كالعادة. فنوع الوحشية التي مارسها المقتحمون للمستشفى لا تخطر على قلب شيطان. اقتحم عشرات من المسلحين المرتدين الزي العسكري اليمني المستشفى ورموا القنابل في ممراته. ومن توهم من المرضى أنهم عناصر حماية وإنقاذ ولجأ إليهم هارباً كانت المفاجأة بأن تم قتلهم بالمسدسات الرشاشة أو رميهم بالقنابل. ولم يبدد الشك في تلك الجريمة إلا تسجيل من أحد قادة القاعدة في اليمن يعتذر عن تلك الجريمة مبرراً لها بأن منفذي الجريمة قد اجتهدوا فأخطؤوا تماماً كما كان يخطئ الصحابة في قتل من ينطق بالشهادة من الكفار. هؤلاء رفعوا أنفسهم إلى مرتبة الصحابة فلا عجب أن يحكموا على معاذ الكساسبة الذي حاربهم بأن يموت حرقاً في قفص حتى الموت أمام أعين العالم.
الجريمة النكراء التي ارتكبها تتار العصر سموها «شفاء الصدور» وقد كانت النيران التي التهمت جسد الكساسبة حريقاً في قلوبنا لن تخمد وهؤلاء يمارسون الجرائم باسم الإسلام. هؤلاء ليسوا صنيعة صهيونية وليسوا اختراعاً غربياً. نعم استغلهم الغرب والمشروع الصهيوني لتحقيق مآربه، لكن أياً من هؤلاء لم يقابل صهيونياً أو غربياً. هؤلاء بنو جلدتنا نشؤوا معنا وتربوا بيننا. تمكنت من اختطافهم الأفكار المتطرفة التي نقابلها كل يوم في الطريق والمسجد والعمل والقنوات الفضائية. الأفكار التي تكفر أصحاب المذاهب المخالفة. وتروج لفرقة واحدة ناجية. الأفكار التي تحلل الجهاد في أفغانستان ضد السوفيت وفي سوريا ضد بشار الأسد وتحرمه ضد الأمريكان في العراق والصهاينة في فلسطين، الأفكار التي تقبل المساعدات الغربية ثم تحارب من يوالي المشركين والنصارى.
كفوا عن اتهام هؤلاء بالعمالة واتهموهم بالضلالة وعالجوا أمارات الضلال في بلداننا وحاسبوا دعاة الضلال. لكن ثمة من يتعامل مع المتطرفين المنحرفين في بلداننا باعتبارهم ذخيرة مخزنة؛ يحافظ عليها بشكلها ومكوناتها، كي يستخدمها في الظرف المناسب حسب تقديره. وفي كل مرة يثبت لنا أن هؤلاء لا يمكن السيطرة عليهم ومن المحال التحكم بهم وأن شرهم علينا أخطر بكثير من المشاريع التي يستغلون فيها.