منذ بدأت الحملات الدعائية الهادفة إلى التوعية بقانون المرور الجديد، وأنا أتعمد عدم الكتابة عن الموضوع، وذلك لسبب بسيط جداً، يتمثل في أن الهدف الرئيس من هكذا قانون هو سلامة وأمن المجتمع أولاً وأخيراً، وبالتالي هي مسألة يجب أن تدعم بديهياً، ويفترض أن يكون مقابلها منطقياً تفاعل إيجابي بالضرورة.
بيد أن الغريب هو بعض ردود الفعل الغاضبة والمبالغ فيها من قبل البعض، وكأن هذا القانون جاء لـ«يجز» رقاب الناس، وجاء لـ»يخرب بيوتهم»، وجاء ليسحب أموالهم و«يجلسهم على الحديدة»!
يا جماعة الخير استهدوا بالله وصلوا على الرسول الكريم، فما هكذا تورد مثل هذه المواضيع، لأن من ينتقدها بهذه الصورة وكأنما يقدم نفسه على أنه من «الخارجين على القانون» وبسبق الإصرار والترصد، بينما القضية متعلقة بقانون ينظم عملية المرور في الشوارع ومن شأن تطبيقه وقف التهور وحماية الناس وممتلكاتهم.
أذكر أنني طوال العام الماضي فقط كتبت عن الظواهر المرورية عديد المقالات، ويمكن لمن لا يعجبه ما نقوله اليوم ويريد أن يمارس دور «المتحلطم الدائم» على قانون المرور، يمكنه العودة لهم ليعرف أن التركيز فيما نكتبه على مطالبة إدارة المرور ووزارة الداخلية بالتشديد على ضبط المخالفين وإنهاء الممارسات الخاطئة في الشوارع.
أدرك تماماً أن أكثر الانتقادات موجهة لوجود عقوبات مالية تصل لسقف عال، إضافة لوجود تغليظ في العقوبة تصل إلى السجن، لكن في مقابل ذلك سؤالنا المطروح هنا: لماذا انتقاد كل ذلك وبهذه الصورة وكأننا نبصم على أنفسنا بأننا «نخالف القانون» ونخشى على أنفسنا تطبيقه علينا؟!
مثلما نقول في المثل الشعبي الدارج «لا تبوق لا تخاف»، فإنه لا يقلق من تطبيق قانون المرور الجديد هو الذي سيحرص تماماً على الالتزام بالضوابط والقوانين ولا يخرقها، بينما من يتجاوز ويسرع فوق سرعة الشارع مثلاً ولا يلتزم بلوائح تسجيل المركبات وتأمينها كمثال آخر، أو من يقطع الإشارات الحمراء وغيرها، فهؤلاء عليهم أن يخضعوا للعقوبة المنصوص عليها والمعلن عنها مراراً وتكراراً، لأنهم قاموا بالمخالفة رغم إداركهم حجم المخالفة.
فقط لأوصل الفكرة أكثر، إذ لي تجربة امتدت لأكثر من عامين في قيادة السيارة في بريطانيا، وأقولها بكل صراحة، إذ لا يجرؤ أحد أن يتحرك بسيارته قبل أن يلبس حزام الأمان هو ومن يجلس إلى جواره، بل يستحيل أن ترى طفلاً أقل من العاشرة في المقعد الأمامي، أو في المقعد الخلفي دون أن يكون جالساً على مقعد الأطفال الذي يتم تركيبه ويحكم ربطه. هناك لا يجرؤ أحد أن يتجاوز سرعة الشارع المحددة، الكاميرات في كل شارع وعند كل إشارة، وحينما ترصف السيارة عليك أن ترصفها في المكان المحدد لها، وفي المنطقة التي تسمح لك بإيقافها بناء على الترخيص الممنوح للسيارة، وإن أوقفتها في مواقف «العملة» عليك وضع المبلغ الذي يغطي فترة التوقف، وإن تأخرت خمس دقائق فقط فإنك ستدفع المخالفة وأنت «تضحك» في مكتب بلدية المنطقة.
اتركوا هذه التجربة الشخصية، وليجب فقط من يسافر كثيراً إلى الخارج وتحديداً إلى أوروبا أو الولايات المتحدة. لماذا في تلك الدول لا نتجرأ على مخالفة قوانين السير فيها، ونتقيد بها بالحرف الواحد؟! بينما في بلدنا نسير بسياراتنا وكل مخالفة تقول عن الأخرى «عندي الزود»، سرعة، لا حزام، لا تسجيل، والإشارات الحمراء لا يتم التوقف عندها إلا إن ثبت وجود كاميرا تصوير «فلاشها» يعمل بكفاءة؟!
هناك الالتزام بالقانون أصبح سمة للمجتمع، وطبعاً لم يتحقق ذلك إلا عبر بناء الوعي لدى الناس، ووصولهم إلى قناعة بأن مثل هذه القوانين لم توضع إلا لأجل تحقيق مصلحتهم والحفاظ على أرواحهم، إذ حينما أضع حزام الأمان، هل أنا أضعه حتى لا تخالفني الدولة أو حتى تقول عني «مواطن صالح»، أم أضعه لأجل حماية نفسي ومن معي من أية مخاطر فجائية في الشارع ومن أي حوادث؟!
والله حتى السبت الماضي وعلى أحد الطرق السريعة في بلادنا، مازالت وسيلة للانتحار هو قيادة السيارة في المسار الأيسر مع محاولة تثبيت السرعة على سرعة الشارع، أي 100 كيلومتر في الساعة!! والله إذا أردت أن تنتحر افعلها، بل حتى لو كنت تسوق 120 كيلومتراً في الساعة متجاوزاً السرعة المحددة أصلاً، بالتأكيد ستجد من يشعل مصابيحه العلوية خلفك حتى تتحرك لليمين، بل لربما وصل لمستوى بالكاد مقدمة سيارته تلصق أو تصدم مؤخرة سيارتك. والله أشك أنها لم تحصل لأحد.. فهل هذا سلوك سوي، من يقوم به يجب أن يتم الصفح عنه وعدم مخالفته؟!
أدرك تماماً أن بعض مبالغ المخالفات سببت توتراً للناس، وبالتالي أفضل طريقة لإزالة هذا التوتر هو الالتزام بالقانون وعدم تجاوزه أو مخالفته. ألبس حزامك، التزم بسرعة الشارع، لا تتجاوز الإشارة الحمراء، لا تتلهى أثناء القيادة بالهاتف أو أي شيء آخر، إذ بالتزامك أنت تحافظ أولا على نفسك ومن معك، وتمنع أذاك عن الآخرين، وتحافظ على أموالك من الغرامات والمخالفات.
لم يتعلم الغرب سلوكيات التقدم والتحضر، مثل القيادة السليمة حسب القوانين، أو حتى الوقوف في طوابير منظمة عند المطاعم أو أي محلات أو حتى مؤسسات خدمية (بخلافنا نحن، لا طوابير، وإن أردنا توعية الناس نحدد لهم المسار بمسارات حديدية)، لم يتعلموا ذلك إلا بعد سنوات طويلة من الممارسة، شهدت في بدايتها رفضاً، ثم وصلت بعد أن ترسخت وآمن بها الناس لتتحول إلى سمة أصيلة من سمات هذه المجتمعات، بات ينظر لمن يخالفها على أنه متخلف وإنسان رجعي في مواطنته والتزامه بالواجبات تجاه المجتمع.
فقط لنسأل عن كم عدد الذين خرجوا بالأمس إلى أعمالهم صباحاً وقد ارتدوا حزام الأمان؟! كم عدد الذين حرصوا على عدم التحدث بالهاتف أثناء القيادة؟! كم عدد الذين حرصوا على الوقوف عند الإشارات الحمراء لا قطعها؟! وكم عدد الذين التزموا بسرعة الشارع ولم يتجاوزوها؟!
الإجابة التي نجزم بها أن كثيرين التزموا بذلك، ولربما الغالبية خوفاً من الغرامات لا من منطلق قناعات، لكنها رغم ذلك خطوة إيجابية في اتجاه تغيير أنماط وسلوكيات كنا نمارسها كأفراد في المجتمع وكلنا استهتار وعدم مبالاة، والنتيجة للأسف كانت حوادث مؤسفة حصدت عشرات من الأرواح ولم تفرق بين رضيع أو طفل أو شاب أو حتى كهول وعواجيز.
صدقوني سيأتي يوم مستقبلاً، سنضحك فيه على أنفسنا وعلى كثير من أصحابنا حينما نتذكر بأن كثيرين انتقدوا قانوناً وجد لحمايتهم ولضمان الأمان في الشوارع، فقط لأن غراماته كبيرة ومن ضمنها السجن.
المسألة فيها أرواح بشر يا جماعة، أرواح حتى المخالفات المغلظة لن ترجعها، وعليه نحن مع كل قانون تطبيقه يخدم مصلحة الناس وأمنهم وسلامتهم، ومن لا يريد أن يتضرر من عقوباته؛ يا أخي «التزم بالقانون»، وحينها من سيوقفك أو سيخالفك؟!