حينما نورد مصطلح الفساد الإداري، أو تخفيفاً الاستهتار الإداري، وهي ممارسة يرصدها ديوان الرقابة المالية والإدارية ويوثق أمثلتها وشواهدها في تقاريره السنوية؛ فماذا نقصد به بالضبط هنا؟!
هناك فهم خاطئ لدى البعض بشأن هذا المصطلح، فهم يظنون أن العملية تركز على كل الممارسات الإدارية الخاطئة في قطاعات الدولة، وكل إجراءات غير صحيحة.
نقول بأنه فهم خاطئ لدى البعض، إذ البعض الآخر يدرك تماماً بأن المصطلح معني «فقط» بالإجراءات الإدارية المعنية بالقطاع، وتغفل في جانبها الآخر ما يرتبط بالموظف كإنسان وبشر له حقوق.
قبل أن يخرج أحدهم ليستنكر ما نقول ويوسمنا بالخطأ، نقول بأن الفساد الإداري الذي نقرأه ضمن الشعارات التي ترفعها الدولة وتسعى لإحقاقها، ليس الفساد الفعلي الذي يعاني منه الموظف، بل هو فساد الإجراءات.
ولنبسط المسألة أكثر؛ فإننا نعني هنا بأن المرصود هي إجراءات إدارية صرف ترتبط بالعمليات المعنية بالقطاع، لكنه لا يعنى بإجراءات إدارة البشر.
هنا قد يفتح باب للجدل؛ باعتبار أن المرصود له علاقة بتجاوزات لها علاقة بإدارة البشر، من رصد لترقيات فيها «إن»، وممارسات فيها وضوح للواسطات والمحاباة، وغيرها من أمور، وهذا أمر طيب، بخلاف أن الإجراءات هي التي تغيب بشكل واضح إذا ما تبين بأن هناك وزيراً أو مسؤولاً فاشلاً تماماً في إدارة البشر وناجح تماماً في تحويل الوزارة أو القطاع وكأنه «منزله الخاص».
ما أريد قوله بأننا في كثير من قطاعات الدولة نحتاج إلى رقابة صارمة ومحاسبة شديدة على عملية إدارة البشر من قبل بعض الوزراء وحتى الوكلاء ومن في حكم أي مسؤول تحت مسؤوليته قطاع من الموظفين، إذ هناك ممارسات خاطئة، وتصلنا كثير من الملاحظات والأمور من قبل موظفين تشير لتجاوزات رهيبة وضرب للأعراف الإدارية ومحاباة واضحة لأناس وعداوات واضحة لآخرين.
هنا من يحمي الناس، ومن يحفظ حقوقهم، ومن يدافع عنهم، وفي المقابل من يحاسب المسؤول على تجاوزه، ولو كان وزيراً يوقع الظلم والإجحاف بحق الموظفين، فمن يردعه، ومن يحاسبه؟!
لا تقولوا لنا إنهم النواب فقط، إذ أعضاء السلطة التشريعية معنيون بأداء ونتائج أكثر من متابعة تفاصيل التفاصيل الصغيرة المعنية بإدارة البشر، وعليه فإن حق الناس يضيع تماماً إن تولى أمرهم مسؤول لا يفقه في الإدارة شيئاً، وإن كان غير مؤهل للإدارة بشكل عادل ومنصف.
هي مرات عديدة أتذكر فيها حديث موظفين لي طوال السنوات العديدة الماضية، كلها تتركز على مسألة أن هذا الوزير أو ذاك أو هذا المسؤول أو ذاك ظالم لشريحة من الموظفين، ومقرب لآخرين، الترقيات تطال حاشيته، السفرات (بالأخص سفرات التكريم التي لا داعي لها) مقصورة على جماعته، في حين هناك فئات وعناصر مغضوب عليها، لا ترقيات متاحة لهم، ولا تطور مهنياً، ولا تحفيز ودافع، بل مقابلها الإحباط والتحطيم.
لهذا دائماً ما نقول بأن من يوضع في مناصب عليا في الدولة يتوجب تذكيره دائماً بأنه لا يحمل صفة «طويل العمر» أو «صاحب السعادة» بل يحمل صفة «خادم» للدولة، ومهمته الأولى أن يخدم الناس وأن يطور من البشر في قطاعه ويؤهلهم لخدمة البشر المتأثرين بأداء قطاعه. لذلك كنا نقول «ضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب»، إذ شبع الناس من ظاهر المسؤول «العسكري» الذي يريد أن يسير الموظفين على مزاجه وعلى «لوائحه الخاصة» لا لوائح الدولة، ويريد أن يوزع الترقيات بحسب الولاءات والمزاج، ويحرم من لا يدين له بالولاء والطاعة العمياء.
الفساد الإداري أفهمه شخصياً بأنه الاستهتار بالموظفين الذين يؤتمن عليهم المسؤول، حينما يظلمهم ولا يمنحهم أبسط حقوقهم أقلها بالتعامل الحسن، حينما لا يقبل بأن يفضل موظفين على آخرين باعتبارات الولاء أو أنهم من الحاشية، حينما لا يقبل بأن يتجاوز اللوائح لأجل مصلحته، وحينما لا يحول المكان إلى عزبة خاصة.
هنا فقط نطرح السؤال مجدداً؛ من يحاسب الوزير أو المسؤول إن قام هو بهذه الإخلالات الإدارية بحق الموظفين واللوائح، ولعب «لعبته» في القطاع الذي تملكه الدولة وأئتمنته عليه؟!