يؤسفنا أن تمر التجربة الديمقراطية ومشروع جلالة الملك الإصلاحي بهذه الصور التي تثبت أن النص الدستوري والاختصاصات التشريعية والرقابية أياً كانت قوتها وسعتها إلا أنها تضيع هباء منثوراً حين توظف لخدمة المصالح الحزبية وليس للمصلحة العامة.
الاختصاصات النيابية الواسعة تحتاج إلى من يمسك بزمامها ويديرها كما يدير الربان دفة السفينة، وتتجلى مهارة النواب حين تتعرض السفينة لعوارض خارجية أو داخلية تهدد سيرها.
ورد فعل نواب «الأصالة» و«المنبر» الذين صرخوا وتشنجوا وانفعلوا وحطموا بعض الأجهزة قبل أن ينسحبوا من الجلسة احتجاجاً على نية رئاسة المجلس بفصل الانتماء الحزبي عن الأمانة العامة رد فعل أساء كثيراً لهما ولتاريخهما الحزبي وللتجربة النيابية التي للتو قد امتدحها جلالة الملك حفظه الله حين زاره الرئيس ورؤساء اللجان، وثبت بما لا يدع مجالاً للشك «تهمة» أراد الاثنان نفيها.
دع عنك التهم والموضوع الذي أثاروا من أجله هذا الموضوع سنتطرق له لاحقاً، إنما نحن بصدد الوقوف عند رد فعل أعضاء جمعية سياسية نسوا أنهم أعضاء في مجلس الشعب، غلب التعصب الحزبي على رد فعلهم بشكل انفعالي حتى غلب على ما يقتضيه الظرف في الزمان والمكان من حكمة وهدوء وغلب على الحق العام للمواطنين الذين من المفترض أنهم يمثلونه بأن يفصلوا في القضية بالاستماع للحجة وللمنطق.
ليس بهذه الصورة تدافع عن إنسان أو جهة أو موقف، وليس بهذه الطريقة تمثل أيها النائب شعباً بأسره وبكافة أطيافه وتلاوينه، كما أنه ليس بهذه الطريقة تدافع عن مظلوم، ما حدث ينم عن قلة خبرة وانعدام حنكة خاصة بعد أن وصل الأمر إلى إرسال رسائل تهديد «بدفع الثمن غال» لرئيس المجلس إن هو مس أياً من موظفي الأمانة العامة بإجراءاته القانونية، مما يقيد حريته ويقيد اختصاصه ويعيقه أمام أداء عمله ومسؤولياته وذلك تصرف يرقى إلى أن يكون جريمة يعاقب عليها القانون، فهل وصل التعصب الحزبي الأعمى لهذه الدرجة؟
ما حدث صورة مؤسفة وتعصب حزبي مقيت لا يشرف أي جمعية أن يتدافع أعضاؤها للدفاع عن بعضهم بعضاً بهذا الشكل أياً كان الموقف الذي يواجهونه، وأياً كانت التهمة التي يواجهونها فليس بالصراخ والعويل توقف التهم أو تتصدى لها، إنك إنما أثبت ضعف حجتك وضعف موقفك.
يهزم من لا يملك إلا الصراخ وسيلة للدفاع ولا يملك إلا العصبية والتشنج والانفعال والاندفاع والتهديد، لقد أعلنت عن هزيمة موقفك قبل أن تبدأ ووفرت على خصمك الجهد.
ثانياً ثبتت «الأصالة» ما نفته وقت الانتخابات بدعمهم لبعض المرشحين الذين ادعوا الاستقلالية، وثبتت نفيها لانتماء موظفي الأمانة العامة لجمعيتهم، لقد وفروا جهداً كان سيبذل لإثبات انتماء من ادعى عدم انتمائه لهم، ولا أعتقد أن إخفاء الانتماء عن جهة يشرف هذه الجهة أو يرفع من شأنها، إن الإنكار والإخفاء يضع الجهة موضع الشبهات وموضع الازدراء ويسيء من حيث يقصد النفع.
أما بخصوص ما أثير حول موظفي الأمانة العامة بتهمة الفساد المالي والإداري فإنها اتهامات خطيرة تعالج بإجراءات التحقيق والبينة على من ادعى وللرئيس أو مكتب المجلس أو أي عضو من الأعضاء أن يطلب التحقيق بوجود هذه الشبهات إن شعر بذلك، ولا يجوز منعهم من حقهم في التبليغ عما يرونه فساداً أو إضراراً بالصالح العام.
والتهديد والابتزاز بمنع ممارسة الآخرين حقوقهم في التبليغ عن جرائم الفساد هو جريمة يعاقب عليها القانون بحد ذاتها ولا تمنع الحصانة أي نائب من مساءلته.
كما أن حق رد الاعتبار والدفاع عن النفس حق أصيل لأي مواطن توجه له هذه الاتهامات، إنما تترك هذه المهمة له ولمحاميه، فإن أراد أي من النواب أن يتبرع للدفاع عن «مظلوم» ما له أن يمارس دوره «الإنساني» دون أن يحول هذا الدور بين تطبيق القانون وإجراء التحقيق.
في النهاية لم يكن هناك داع لهذه «الضغبرة» التي جرت والتي وضعت الكتلة النيابية كلها موضع الاتهام عند الرأي العام، وأثارت بهذه «الفزعة» الشبهات حولها، ما هكذا يكون الدفاع عن الحق، إنكم أضعفتم موقفكم وموقف موظفي الأمانة وألحقتم الضرر بهم من حيث لا تقصدون.
نأتي الآن للسؤال الذي كان يجب أن يكون هو موضوع النقاش وهو ما كان يجب أن يركز عليه النواب ويصبح موضع جدل عام وهو «ما الذي يمنع تحزب موظفين في الأمانة العامة وانتماءهم لإحدى الكتل النيابية؟».
سؤال نجيب عليه في الغد.