شغل المفكر والكاتب الأمريكي يوشيهيرو فرانسس فوكوياما، الياباني الأصل، اهتمام الأوساط الفكرية والسياسية الأمريكية منذ ما يزيد عن عقدين، وذلك بعد أن نشر مقالاً في دورية «ناشونال انترست» عام 1989 بعنوان «نهاية التاريخ»، ومضمونه أن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية في العالم قد انتهى مع انتهاء الحرب الباردة، لتحل محله الليبرالية والقيم الديمقراطية، وقد أسس المفكر فوكوياما نظريته تلك على ثلاث ركائز؛ الأولى هي أن الديمقراطية المعاصرة قد بدأت في النمو منذ بداية القرن التاسع عشر، وانتشرت بشكل متدرج في مختلف أنحاء العالم كبديل حضاري للأنظمة الديكتاتورية، والثانية أن فكرة الصراع التاريخي المتكرر بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا في المجتمعات لا يمكن أن تنتهـي إلا في الديمقراطيات الغربية، والثالثة هي أن المستقبل سيكون للرأسمالية أو الاشتراكية الديمقراطية وأن الشيوعية والاشتراكية الراديكالية لا يمكنها أن تواكب هذا التوجه نحو المستقبل.
وقد جعل المفكر فوكوياما الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً يحتذى به في بحث نظرية «نهاية التاريخ»، حيث يقول محللاً للواقع السياسي التاريخي الأمريكي «إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت إلى حدود القرن التاسع عشر دولة ضعيفة، وابتداءً من مطلع القرن العشرين أصبحت أكثـر قوة وتطوراً بفضل الثورة الاجتماعية المتأثرة بالثورة الصناعية وانخراط مجموعة من الفاعلين السياسيين الجدد في الضغط على النظام في الدولة وتطويره، وبذلك يكون تاريخ الاضطهاد والنظام الشمولي قد توارى وبزغت الديمقراطية الليبرالية في القرن العشرين».
ولم يتسم فكر فوكوياما بالجمود؛ بل واكب التطور الذي تشهده الولايات المتحدة خاصة والنظام العالمي بوجه عام، وهو ما تمثل في كتابه الذي نشره في عام 2014 بعنوان «النظام السياسي وانحطاطه.. من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية» بشأن النموذج الأمريكي الذي نسب إليه بأنه يميل إليه ميلاً مبالغاً فيه ويبلوره للعالم كترياق لمحاربة الاضطهاد والاتجاه نحو التطور، حيث رد على ذلك قائلاً بأنه إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تبين كيف يمكن للدول الديمقراطية أن تتطور فإنها تبين أيضاً كيف يمكن أن تنحدر، وأن نظاماً ديمقراطياً مستقراً وناجحاً في مرحلة ما لا يعنـي أنه سيبقى كذلك إلى ما لا نهاية، وأن الولايات المتحدة ليست لديها حصانة دائمة ضد الانحدار المؤسساتي، بل عليها أن تعمل هي والأنظمة الديمقراطية على إصلاح نفسها ومكافحة الانحلال المؤسساتي حتى تستطيع التطور بما يخدم مستقبلها ومستقبل المنظومة العالمية.
مؤدى ما سبق -ووفقاً لفوكوياما- فإن النظام السياسي الأمثل في تاريخنا المعاصر هو النظام الديمقراطي الليبرالي، والذي يقوم على توازن بين ثلاثة أمور وهي؛ المحاسبة السياسية، وجود دولة قوية وفعالة، ثم سيادة القانون، وذلك لكون المحاسبة تستدعي إقامة آليات لجعل القادة أكثر تفاعلاً من المواطنين، وهو يمكن تجسيده في تنظيم انتخابات تعددية نزيهة، بيد أن ذلك لا يكفي، بل يجب أن تكون بجانب ذلك حكومة مركزية قوية وفعالة، تعمل في فلك القوانين والأنظمة التي تجسد سيادة القانون.
ومع التسليم بأهمية تلك الأفكار فإن التساؤل المنطقي هو كيف يمكن من خلالها قراءة عملية التحديث في دول مجلس التعاون وفقاً لتلك الأفكار التي خلص فيها فوكوياما إلى أن الأولوية للدولة الوطنية القوية ثم الحديث عن التحديث ثانياً.
وللإجابة على ذلك التساؤل يمكن الإشارة إلى أمرين الأول؛ أن المفكرين والكتاب الغربيين الذين يحثون دول الخليج العربية نحو تبنـي النمط الديمقراطي الغربي، قد جانبهم الصواب في عدة أمور منها العلاقة الوطيدة بين أفراد المجتمع والدولة والمرتكزة على ركائز مهمة أولها الشريعة الإسلامية، والتـي نظمت العلاقة بين الدولة والمواطنين منذ ما يزيد عن 1400 سنة بشكل دقيق ومتوازن يقوم على أساس العدل والمساواة والاتحاد بين الفرد والدولة، بحيث تدعم الدولة الفرد اجتماعياً واقتصادياً وخدمياً، ويدعم الفرد الدولة بالذود عنها ودعم استقرارها سياسياً ومالياً واجتماعياً، وثانيها؛ الواقع الاجتماعي؛ حيث إن للدولة الخليجية خصوصية تمزج بين التقليدي والحديث، وبالتالي فإنه حتى يكون تقييمنا موضوعياً يتعين أن يتم ذلك ضمن السياق التاريخي والاجتماعي لدول الخليج.
أما الأمر الثاني فهو؛ أنه وفقاً لفوكوياما فإن النظام السياسي الأمثل «الديمقراطية الليبرالية» يقوم على إعمال التوازن بين المحاسبة والدولة القوية وسيادة القانون، مما يميز هذا النظام عن غيره ومما يؤدي إلى تطور الدول ورقي المجتمع الدولي وينهي تاريخ الاضطهاد والحكم الشمولي، إلا أن تلك الرؤية كانت محلاً للانتقاد حيث مفهوم النظام الأمثل يختلف من المنظور الذي ينظر إليه وقد يتحقق التطور لمجتمع ما بتحقق عنصر من العناصر الثلاثة، أو بتفضيل عنصر على العنصرين الآخرين، وعلى سبيل ذلك الصين فقد طورت مفهوم الدولة قبل أن تقوم أي دولة في أوروبا، وتعد حالياً من كبريات الدول في العالم اقتصادياً وسياسياً، ومع ذلك لم تتمتع إلى درجة كبيـرة الدولة في الصين بالمحاسبة والمساءلة السياسية ولا بسيادة القانون.
ومع أهمية ما سبق فإن تلك الأفكار قد أثارت عدة قضايا مهمة أولها؛ أنه لا يمكن تصنيف الدول استناداً لأفكار فوكوياما بمنأى عن العوامل الداخلية والخارجية التي تمر بها الدول عموماً، وثانيها؛ أن تصنيف الدول إلى ديمقراطية وغير ديمقراطية هو أمر نسبي حتى بين الدول الغربية ذاتها، وبالتالي فإن المعايير الغربية ذاتها تحتاج لمراجعة، وثالثها؛ أن دول الخليج أخذت بمميـزات وعناصر النظام الديمقراطي الليبرالي وأعادت صياغته وفقاً للواقع الاجتماعي والسياسي فيها. ورابعها؛ أن فوكوياما قد أعطى الأولوية للدولة القوية حتى يمكنها النهوض بعملية التحديث.