المتابع للخطب الدينية التي هي اليوم في حقيقة الأمر سياسية باستثناء مقدمتها وخاتمتها؛ يلاحظ أن ملقيها يعمدون إلى إلقاء اللوم، كل اللوم، على الحكومة، فيكيلون لها ما يشاؤون من اتهامات وينتقدون أسلوبها في معالجة المشكلة، ويقولون إنها تعمد لإطالة الأزمة وتراهن على تعب الطرف الآخر، ويرون أن الحل يتلخص في تسليم الحكومة لكل مطالب «المعارضة» من دون شرط أو قيد.
ومع أنه من غير المنطقي خلط الدين بالسياسة والسماح للموضوعات السياسية بالسيطرة على الخطب الدينية؛ إلا أن ترك الأمر هكذا من دون الرد على هؤلاء الخطباء يؤثر سلباً على الحالة الراهنة، ويجعلهم يقودون الجمهور إلى حيث لا أبواب يمكن الولوج منها إلى الحل.
مشكلة هؤلاء الخطباء أنهم مؤثرون في جمهورهم، وكلما كان الخطيب محل ثقة اعتبر الجمهور كلامه واجباً شرعياً، فلا يمكن لمثله أن يقول إلا ما ينبغي أن يقال، ولا يمكن لمثله أن يقول إلا ما يقول به الدين والشرع. وبالمقابل فإن العمل بعكس ما يقول فيه إثم وجرأة على الدين تستوجب معاقبة النفس بلومها والأخذ برأي الخطيب، وإن كان غير منطقي وغير واقعي ويضر بالوطن.
بالتأكيد ليس كل الخطباء مؤثرين وكلامهم مسموع، فالخطباء الذين يمكن وسمهم بـ«الموالاة» مهما بلغت قدراتهم في الخطابة يظلون خارج هذه القائمة، والخطباء الذين يدعون إلى التهدئة والعودة إلى العقل والابتعاد عن العنف ونبذه ويستشهدون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وينصحون؛ لا قبول لهم لدى جمهور لم تعد تغريه إلا العبارات الثورية. التأثير مقتصر على الخطباء الذين يعرفون كيف يلامسون العواطف ويمتلكون القدرة على الشحن، والدليل هو أن هذا الجمهور يحرص على الصلاة خلف هؤلاء الخطباء دون غيرهم ويفهم كلامهم على أنه توجيهات.
المثير أن هؤلاء الخطباء يعرفون جيداً مدى قدرتهم على التأثير في جمهورهم، ومع ذلك لا يهتمون بدعوتهم إلى الابتعاد عن ممارسة العنف، وبدلاً من ذلك يهتمون بالتبرير لهم ويوفرون لهم الأعذار، بل يحرضونهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة على مواصلة هذا الدرب. هؤلاء يروجون لفكرة ملخصها أنه لولا أن هذا الجمهور يشعر بالظلم ولولا أن حقوقه مسلوبة لما خرج إلى الشارع، ولما قام بعمليات التخريب ونشر الفوضى، ولما مارس العنف بكل أشكاله.
الواضح أن هؤلاء الخطباء ذوي القدرات العالية في التأثير في جمهور المصلين يعتقدون أنهم لو قالوا بغير ما يريح جمهورهم ويريده لانفض من حولهم ولم يأخذ بكلامهم، ولهذا فإنهم يحرصون على الحديث بالشكل الذي يرضي ذلك الجمهور ويجعله متمسكاً بهم ومؤيداً لهم. هؤلاء يدركون تماماً أنهم لو دعوا إلى التهدئة فسيرفضهم ذلك الجمهور، ويدركون أنهم لو قالوا إن الجمهور يمارس العنف وإن عليه أن يتوقف عن هذه الممارسة فسيتهمهم بالخيانة، ويدركون أنهم لو نصحوا بما لا يرضي جمهورهم فسينبذهم كما نبذ آخرين من قبلهم حاولوا أن يصلحوا. هذه إشكالية وعقبة كأداء في طريق الوصول إلى حل يرضي الجميع، فإذا كان هؤلاء الخطباء يعتقدون أن الحق، كل الحق مع هذا الطرف دون غيره، فهذا يعني أنهم يغلقون الأبواب، كل الأبواب أمام جمهورهم فلا يقبل إلا بما اعتبره هؤلاء الدينيون الموثوق بهم حقاً، ويعتبر كل تنازل إساءة للخطباء الذين قالوا بذلك، بل إساءة للدين.
استمرار هؤلاء الخطباء في هذا الأسلوب يسهل معه تصنيفهم في خانة المحرضين على العنف ونشر الفوضى والداعين إلى إبقاء الحال على ما هو عليه، ذلك أن بإمكانهم أن يسهموا في تهدئة الساحة و«تبريدها» كونهم يمتلكون القدرات العالية في التأثير على جمهورهم