في اتصال صباحي استثنائي سألني الزميل القديم الكاتب فواز الشروقي عن موقع مكتبي ليهديني روايته الأولى «الدفنة»، كانت مبادرة لطيفة من فواز، وتقديراً خاصاً لي بصفتي «زميلة الدراسة والعمل» كما ذكر في إهدائه، وحين أتممت قراءة الرواية وجدت أني أمثل في نظريات القراءة والتلقي «القارئ النموذجي» لرواية «الدفنة».
تدور أحداث الرواية في المرحلة الزمنية من مطلع الثمانينات حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويقع أغلبها في مدينة المحرق وخصوصاً إسكان «الدفنة»، و«الدفنة» بالمفهوم البحريني هي المساحات الأرضية الواسعة التي كانت مسطحات مائية تم دفنها بالرمال لتحويلها إلى مشاريع إسكانية ومن ثم مشاريع استثمارية، وجيل الثمانينات يمثل حالة خاصة في الواقع البحريني، فهو جيل اكتسحه التيار الإسلامي بعنف بعد الثورة الإيرانية وحرب الجهاد في أفغانستان ضد الملاحدة الروس، فانصرف الكثير حديثو المراهقة والشباب للتدين بصيغته «الخائفة» من عذاب القبر ومراتب النيران، ومن الوقوع في الفتن والبدع ومن الانجراف إلى الهوى واللهو واللغو والفتور. وانتشرت دعوات الزهد والترويج لنموذج المسافر في الدنيا أو عابر السبيل والقابضين على الجمر. وكانت الأدوات الثقافية الشائعة هي أشرطة الكاسيت للدروس الدينية وحلقات الدروس في المساجد والجمعيات ودروس تحفيظ القرآن وتجويده.
ومع بدء الألفية الثانية استفاق بعض أبناء الثمانينات الذين نسوا أنفسهم في حلق الذكر ليجدوا من علموهم القبض على الجمر يقبضون على الملايين، ومن علموهم الزهد قد صاروا زعماء سياسيين يتنافسون على مقاعد البرلمان ومجلس الشورى ويركبون السيارات المرسيدس والبي إم دبليو ويحملون جوازات دبلوماسية.
بطل القصة «سلمان» الشاب الثلاثيني الذي وجد في سيارته خاتم مكتوب عليه اسم هناء، ويدور الخاتم دورة طويلة مع أحداث القصة عبر استخدام تقنية تيار الوعي التي يفيض فيها سلمان بذكرياته بحثاً عن صاحبة الخاتم وسبب وقوعه في سيارته! يتذكر سلمان كيف انخرط باكراً في التدين، وبدأ بأداء صلاة الفجر في المسجد وهو بعد صغير، وكيف تخلى عن البنطلون الجينز وتي شيرت فريقه الرياضي المميز، وارتدى الغترة مع القحفية المذهبة. ثم شيئاً فشيئاً بدأ سلمان يتخلى عن تزمته بعد التحاقه بالدراسة الجامعية إلى أن تحرر تماماً وارتبط بعلاقات عاطفية عديدة مع فتيات كثيرات، كانت إحداهن «تهاني» ابنة عم هناء التي سقط منها خاتم هناء ذات موعد غرامي معه. وهناء هي جارته القديمة، تلك الطفلة التي نشأت في حيهم تعيش في بيت خالها مع جدتها بعد أن انفصل والداها وتخليا عنها. ثم تعيش هناء مرارات التشرد بين بيوت أقربائها وموت جدتها. وتتورط في زيجتين فاشلتين آخرها من رجل منحرف صاحب علاقات نسائية كثيرة ينتهي به المطاف إلى التطرف والهجرة إلى أفغانستان من أجل الجهاد ليموت في ظروف غامضة، ولكنه يحتسب عند جماعته شهيداً. وتستمر هناء في حياة العناء خائفة أن يتجرع أبناؤها مرارة اليتم والتشرد كما نشأت هي. هناء تمثل الرمز التقليدي للمرأة المتجسد في الوطن الذي يضيع بين الانتهازيين. هناء هي حبيبة الطفولة التي ضيعها سلمان ووجدها متأخراً وقد عبث بها الزمان بقسوته واختطفتها «الأخوات المنقبات» وأقنعنها أن ما تمر به من ابتلاءات سببه معاصيها، وأنها كلما اقتربت من الله فإنه سيحفظها ويحمي ابنها الوحيد. و«الدفنة» هي رمز للذكريات المؤلمة والرغبات المؤجلة التي دفناها في أعماقنا لكنها تباغتنا وتتجسد دائماً أمامنا ولا تغادرنا.
ولأني أعرف فواز الشروقي بشكل شخصي، فقد أدركت أنه في الرواية يعبر عن هاجسه الأكبر وهو كسر «التابو» والخوض في الحديث الممنوع عن الجنس والدين، وهذا يبرر تراكم أحداث الرواية وكثافتها، والميل أحياناً للشرح الطويل والتفسير وانتهاء الرواية بالخطابية وهو ما قد يضعف البنية الفنية للرواية في بعض مواضعها.
رواية «الدفنة» رواية جيل كامل سيجد أفراده مواقعهم بسهولة في ثناياها. وسينبشون ذكرياتهم وآلامهم وآمالهم التي دفنوها في أماكن عدة بدأت تتلاشى. ولسبب شخصي يتعلق بموقفي الأيديولوجي وتحولاته شعرت أني معنية بالرواية ومسكونة بهواجسها؛ وهذا أحد أسباب إهداء الرواية لي. وبعد أن أتممت الرواية سألت نفسي: هل «سلمان» بطل الرواية هو ذاته فواز الشروقي الطالب الخجول والملتزم على نحو متزمت الذي صادفته في السنة الأولى في كلية الآداب، ثم بعد أن دار الزمن دورته تعرفت عليه زميلاً في العمل وقد «حلق لحيته؟!.