أغلب التحليلات السياسية التي تقدم قراءة حول المشهد العربي المتداعي تشير إلى أن الهدف من زرع الفوضى بالصور التي تجلت عليها هو تفتيت الدول العربية وتحويلها إلى نماذج للإمارات الصغيرة التي شهدها التاريخ الأندلسي وانتهت بزوال ملك العرب في أوروبا، والهدف الاستراتيجي بعيد المدى لهذا التفتت هو تصفية القضية الفلسطينية تماماً ومن ثم قيام دولة إسرائيل الكبرى، وليس الدواعش العرب والمسلمون بكافة تلويناتهم ومسمياتهم إلا أداة ناجعة تثبت كل يوم أنها أفضل وصفة تمكن الغرب من اختراعها لتحقيق أهدافه الاستعمارية والإمبريالية.
في أحد مقالات الدكتور فاضل الربيعي الأخيرة التي تنبأ فيها بنشوء تكوينات وحشية إسلاموية جديدة متفرعة عن داعش إما بالتناسل أو بالتضاد، أشار إلى احتمالية بعث ما أسماه «حزب التحرير الإسلامي»، وهو حزب فلسطيني تأسس تحت بصر إسرائيل ورضاها عام 1952، ويعد أول حزب ينادي باستعادة الخلافة الإسلامية، ويفصل الدكتور الربيعي في سرد تاريخ نشوء الحزب وتفسير إمكانية تحوله إلى كيان وحشي مثيل لداعش. مبيناً أن تحقيق حلم الخلافة هو اختلاق إسرائيل لأنه يحل التناقض الإقليمي الذي تعيشه إسرائيل، حيث سينشأ في المنطقة كيانان دينيان الأول يهودي في إسرائيل، والثاني إسلامي عاصمته القدس.
ويشير الدكتور الربيعي إلى أن تمكن «حزب التحرير الإسلامي» من تحقيق غاياته المرتبطة بتحركات باقي الجماعات الداعشية والتي سترفع شعار استعادة المسجد الأقصى وتحريره؛ سينتهي بتحول المنطقة إلى ولايات متصارعة تنضوي تحت الخلافة الإسلاموية في القدس التي تدار بشكل مباشر من الكيان الصهيوني نفسه.
ويدعم الدكتور فاضل الربيعي قراءاته بتسليط الضوء على توريط الفلسطينيين والقضية الفلسطينية في الصراعات الدائرة في المنطقة وذلك بتورط حماس وكتائب القسام في أحداث مصر وسوريا، ودور الشيخ رائد صلاح، نقلاً عن الربيعي، في تجنيد شباب فلسطينيين ومنهم أطباء للجهاد في العراق وسوريا وقيامهم بعمليات انتحارية في تلك المواقع. وتأسيس جماعة بيت المقدس في سيناء التي تقاتل الجيش المصري، وغيرها من النماذج التي يرى الربيعي أنها أثرت على صورة القضية الفلسطينية وموقعها في قلوب العرب الذين صاروا غاضبين من أدوار الفلسطينيين في تأجيج قضايا بلدانهم الداخلية.
وقد ذكرتني مقالة الدكتور الربيعي بالحملات الدعائية لجماعة الإخوان في مصر في الانتخابات المصرية التي انتهت بفوز محمد مرسي، إذ ثار الرأي العام المصري حين أقيم مهرجان ترويجي إخواني لدعم محمد مرسي رفعت فيه أعلام حماس أكثر من الأعلام المصرية، وهتف السيد صفوت حجازي أحد أقطاب التنظيم الإخواني هتافه الشهير: إن محمد مرسي وإخوانه سيؤسسون «الولايات المتحدة العربية وعاصمتها القدس»، ثم أخذ ينشد، ومعه الحاضرون: «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، يومها تساءل المصريون عن سبب زج القدس وأعلام حماس في الانتخابات المصرية، وموقع مصر التي سيحكمها محمد مرسي وسيؤسس من خلالها الولايات المتحدة العربية!!.
قد نتفق أو نختلف مع القراءة التي طرحها الدكتور فاضل الربيعي؛ لكن أكثر ما أثار انتباهي في المقالة هي تضرر صور «الفدائي الفلسطيني» عندما تحول إلى «مجاهد إسلاموي»، فالأول كان يقوم بعمليات استشهادية ضد الصهاينة في فلسطين المحتلة أو أي بلد يتواجدون فيه. أما الثاني فصار يفجر نفسه في تجمع للشيعة في العراق أو يقيم الحدود في سوريا أو يدبر كمائن لجنود الجيش المصري. لقد خسرنا في مرحلة الجهاد المزعومة صورة الفدائيات الفلسطينيات والعربيات، تلك الفتيات النحيلات بقاماتهن الممشوقة وشعورهن القصيرة المتموجة، اللائي كن يلبسن البزات العسكرية، ويثقبن المدى بنظراتهن الوقورة الحادة التي لا ترى في الغد إلا الموت وسط جثث الصهاينة المتناثرة، وحلت محلهن صورة ساجدة الريشاوي بتقاسيم وجهها المكفرهة وبحزامها الناسف تحت العباءة. وجيش المنقبات والفتيات اللاتي يبلغ أهلهن عن هروبهن من أصقاع الدنيا للحاق بالجهاد مع الدواعش.
القضية الفلسطينية تعيش أسوأ مراحلها فالجميع في شغل جاد عنها وفي هم حقيقي يبعدهم عنها؛ والصهاينة قد تجاوزوا فلسطين وجيوشهم الجرارة صارت الدواعش من أبنائنا. وانقسم العرب بين من فقد وطنه وعاش لاجئاً كالفلسطينيين، وبقية تخشى المصير ذاته. كل العرب يعيشون همهم الوطني ومخافة ضياع الأرض والهوية. وقد نجحت كل الأحداث المتسارعة وعلى رأسها ظهور الوحوش الإسلاموية في دخول العرب فيما يشبه حالة «التخلي عن القضية الفلسطينية» وترك الفلسطينيين يحلون قضيتهم وحدهم.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}